أنفاس

19
الإثنين, ماي
15 مواد جديدة

anfasse20022تمهيد:
مثلت العتبات محورا هاما في الأبحاث السردية في الفترة الأخيرة، و قد تجسدت هذه الأهمية في ما كتبه جيرار جينيت G. Genette في منشورات ( Seuils)، أو هنري ميتران H. Metterand في هوامش النص، أو العنوان بشكل عام عند شارل كريفل CH.Grivel، أو ما يطلق عليه بالنص الموازي Le Paratexte.
فلقد كرست أغلب هذه الدراسات جهدها في إبراز ما للنص الموازي من أهمية للكشف عن العلاقة الجدلية التي تقوم بينه و بين النص إن بشكل مباشر أو غير مباشر. و يمثل العنوان أهم هذه العتبات، إذ يعتبر بطاقة هوية للنص، تميزه عن غيره من النصوص، فبالعنوان تعرف الرواية و تشتهر و تبلغ الآفاق. و من هنا كان لزاما على الأديب أن يحسن اختيار العنوان الذي سيسم به روايته.
و المتامل في عناوين الروايات يجد دون كبير عناء أنها لا تتجاوز في أغلب الأحيان الكلمة و الكلمتين و في بعض الأحيان تبلغ الجملة البسطية من حيث التركيب النحوي، لكنها على اختزالها حافلة بالدلالات و الإيحاءات، و ترتبط بالنص بأشكال مختلفة.
 و العناوين على تباينها من أثر إلى آخر و من أديب إلى آخر، و هذا التباين يجعل القارئ متأرجحا بين العنوان و المتن، و لا تكتمل متعهته إلا إذا اطلع على الأثر، و لا ينتهي أدراكه لمعنى العنوان إلا إذا ألمّ بما في المتن الروائي من أحداث و رافق شخصياته في أقوالها و أفعالها. و في العناوين تباين و اختلاف، يجعل القارئ ميّالا لاستقصاء الدلالات و المعاني و مدي اختزال تلك العناوين للمضمون الروائي المبثوث بين الصفحات و في الأسطر وفي ثنايا المتن.

anfasse20016" لا يمكن أن تُراقب دائما ما يجري خارج ذاتك، ولكن بإمكانك مراقبة ما يجري داخلها " (ص124)
" من أنا ؟ " (ص7)..
سؤال كان البداية.. ليقف القارئ أمامه متسائلا و مستغربا ومندهشا، لأن السؤال هنا لا ينتظر من القارئ جوابا.. بل وُقوفا للتأمل وطرح السؤال، سؤال الاندهاش والفضول. كيف لا يعرف من يكون هذا المتكلم ؟
مدخل مُلغز يدفع بالقارئ إلى أن يتتبع مسار الحكي الذي يغزله السارد هادئا.. متسلسلا.. قويا.. بسيطا..ليقطع به الفضاءات والأزمنة والأحداث التي تتوالى تضفر الإقدام بالتراجع.. والحب بالخوف.. والترقب بالصبر..لتؤسس لرواية اجتماعية بامتياز..
السؤال انطلاقٌ للمغامرة.. " من أنا " (ص7).. والسؤال أيضا نهايتها.. "لم لا ؟ " (ص175)، وبين السؤال والسؤال أكثر من جواب، أكثر من حدث.. أمل يتفرق على امتداد الرواية ليكون الخيط الرابط بين الحب والصبر والانتظار.. وإذا كان الجواب موتٌ للسؤال، فإنه هنا، في رواية "التوأم"، انطلاق للحكاية ومنتهاها وامتداد لها وتفرُّع لمسارات الحكي الذي تتجاذب تيماته أحداث توقِفنا أمام عجزنا الإنساني الذي يُصعِّب علينا تكهّن أسراه بين السؤالين.. من أنا ؟ و ولم لا ؟ .
بين السؤال والسؤال اشتعلت مسافات الحكي، تنسج من الألم أحداثا تُسيج الحلم لتجعل منه ـ كما السؤال ـ بداية ومنتهى.. حلمٌ عصِيّ على التحقق ينفلت كما تنفلت الأسرار بين الشفاه ساعة بوح، لتدور الدائرة، ويعيش الحلم / الحب محكوما بالبعد.. بالشهوة الممنوعة والمحرم..

anfasse20014مقدمة:
      استطاعت الصورة أن تكون الفضاء الرحب الذي يبرز ثقافات مختلفة، وأن تتجاوز عائق اللغة، وأن تسهم في انتشار الفكر، وشيوع الثقافة؛ لأنها لغة بصرية عالمية يفهمها أهل الأرض جميعا، فهي نص لملايين المتلقين لما تمتلكه من قوة تعبيرية لها القدرة على استنساخ الواقع وإعادة إنتاجه أو التمويه عليه من خلال المضاف التقني، بل إن الصورة اليوم صارت تصنع المشهد، وتدعي إمكانية إعادة الواقع، وترويضه، وتوجيهه وفق غايات إيديولوجية مسبقة.

1.    الصور تغتال الصورة:
إذا كانت الصور في أصلها محاكاة للواقع فإن بودريار (Baudrillard) يذهب إلى فكرة اجتماعية اتصالية تتعلق بالصورة في التلفزيون والتي ترى أن الصور المعروضة نسخة غير ذات الأصل المحدد، وهذه صور ليس لها مقابل محدد في الحياة الواقعية، إذ يصعب على الإنسان العادي أن يميز الصورة النسخة عن الأصل، لذلك فإن تلك الصور تمثل نوعاً من الواقع المزيف الذي يتجاوز الواقع الفعلي نفسه، والغريب في الأمر أن الصور التلفزيونية المفروضة علينا توهمنا أنها الواقع الحقيقي، بل إنها عند بعض المشاهدين أكثر واقعية من الواقع نفسه! فما يفصل بين الواقع الحقيقي وبين الصور المعروضة أمامنا، هو فاصل غامض غائم صعب التحديد؛ لأن (( الكثير من الصور تقتل الصورة، فالتضخيم الأيقوني له قانون غريشام (Grisham)[1] الذي يخصه مثل الآخر، أي إن الصورة السيئة تطرد الجيدة.. فالألبومات، والإعلانات المطوية، والمجلات، والملصقات، والإعلانات الضوئية، والشاشات تلطخنا بالمؤثرات البصرية، بحيث تنمحي الفروق بين العمال الفنية والمنتوجات وتعقد كلها في النهاية من حدتها، ويقوم الغول البصري بفرز الإملاء التام للمحيط عن المهارة العادية التي تخون صيرورة صورنا. فنحن نلقي على اللوحات والصور نظرات سريعة [ إلى الأشياء المعروضة على أبصارنا عبر الشاشة وغيرها ] كما لو كنا نتصفح الصفحة الأولى للجريدة .. فالصورة تنقصنا لأن الزمن ينقصنا. ذلك هو مرض السعادة التلفزيونية: المشاهدة بوصفها تحققا بين البرامج والأخبار، الإعلان بأن كل شيء يسير كما هو مرسوم سلفا بنفس الشكل فإن الإعلان بأن كل شيء فنٌّ يعين عالما لا يعتبر فيه الفن شيئا مهما، كما إن منح كل شيء للنظر يعلن في الآن نفسه عن انهيار البصر وعن انتصاره إلى درجة نكاد نعتقد فيها بالصورة الجمالية تكثر من ضعاف البصر ))[2].

anfasse20013أن تكتب عن مدينتك، وتتجذر في المكان الذي أتيت منه، بتفاصيله الصغيرة، وأحيانا المبتذلة والتافهة، بحثا عن بناء كُليَّة ما بأدوات تلتقطها من على قارعة الطريق، أو قابعة في عمق الهامش والمنسي، فأنت كما يقول الروائي الفرنسي فرانسوا مورياك تبحث عن انطولوجيا للحياة والحب والموت، عن استشفاء من انجذابات المركز ومرايا الذاكرة،  في زمنية تُستلب فيها ذاكرة الأمكنة، وترتحل فيه ذاكرة الأشخاص.
   تلكم هي قصة الروائي المغربي عبد الكريم جويطي مع منجزه الروائي، ومنها روايته الأخيرة، الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي سنة 2016، في حوالي 403 صفحة، من الحجم المتوسط، موسومة بعنوان " المغاربة".
   من هم المغاربة؟ وهل سنلتقي بالمغاربة في هذا الدفق الإبداعي، أم ببعض منهم؟  ولماذا نتوسل بالأدب حينما نريد أن نُعري عن انطولوجيا الواقع، ونكشف عن ترميزاتها المحتجبة؟ ما حكاية البطل الأعمى وصديقه المعطوب؟ أهي إحالة رمزية  عن انعطاب ذاكرتنا التاريخية، وتكلس وعينا الحضاري؟ ثم ما الذي يفسر هذا القلق الروائي حول المغاربة  في زمانية متحولة؟ حول "هذيانات مغربية"، تستغور التاريخ اللامرئي لشعب يجر وراءه قرونا من الوجود، وتنتصر لتعاقب الأزمنة والأمكنة، وصراع الأجيال وانهجاسات الهوية والذات والخصوصية.  

anfasse20011تأتي هذه المقالة في إطار الاستمرار في البحث ومتابعة مقالتي السابقة: نبوءة الشاعر، تلك التي بنيت طرحها على ثلاثة أسطر من شعر السياب والنواب. وسأحاول في هذه المقالة تتبع خيط الفكر الثوري وملامحه عند شاعر يعتبر بإجماع أهل الأدب أعمق جدر لدوحة الأدب في تربة الثقافة العربية. إنه كما اتفق على تسميته "الملك الضليل" الذي أضاع ملك أبيه، بل وذهب البعض إلى اعتباره  واحدا من صعاليك الشعراء في العصر الذي سبق ظهور الإسلام. ولكنه في الحقيقة الخفية ـ كما سنرى ـ قد كان ثائرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد كان جيفارا عصره إن شئنا القول. وسأتتبع في هذه المقالة ملامح التوجه الثوري عند الشاعر الكبير امرئ القيس، وذلك من خلال أبيات قليلة فقط، ولكن طبعا مع إسقاطها على ظروف حياته والوضع العام ـ اجتماعيا وسياسيا ـ الذي طبع تلك المرحلة .
يحمل لفظ "ثورة" مدلولات مكثفة ارتبطت أغلبها بالحركات الاجتماعية والسياسية التي ميزت القرون الأخيرة، لعل آخرها تلك الثورات التي حركت العالم في القرن العشرين، نتحدث هنا عن الثورات ذات المرجعية اليسارية، الماركسية ـ اللينينية، ابتداء من ثورة أكتوبر ومرورا بثورة ماو تسي تونغ فكوبا إلى أن اكتسح المد الأحمر أجزاء من العالم قبل أن يتقلص ويتخلى عن مواقعه منذ سقوط جدار برلين.  وحتى مفهوم الثورة عند كارل ماركس قد ارتبط بثورة باريس سنة 1848 أكثر، وإذن فالثورة لا يمكن فهمها أو مجرد الحديث عنها إلا وسط حراك فعال، وإنها بالضرورة ترتبط بالتنظير (العمق الإيديولوجي) والفاعلية (حركية الشارع). من هذا المنطلق واحتكاما لظروف المرحلة والعصر حيث عاش امرؤ القيس يمكننا القول بأنه كان منظرا ثوريا بقدر ماركس وإنجلز من جهة، كما كان فاعلا مثقفا بقدر غرامشي من ناحية أخرى. وإليكم السبب الذي جعلني أرتاح لمثل هذا الحكم. 

anfasse11018يضعنا القاص عبد الله بنعتو من خلال مجموعته القصصية" فاكهة للفم العجيب "[1] أمام مجموعة من التيمات والمواضيع المتنوعة التي تناولها بنوع من العمق والنضج النظريين. تَنَاوُلٌ يستفز القارئ ويجعله مستعدا لسبر أغوار هذه القصص شرحا وتفسيرا وتأويلا، وفَكِّ شفراتها وما تضمه من تيمات تعكس رؤية صاحبها وموقفه من القضايا المطروحة.

1-  مقامات/ تَدَرُّجٌ في البحث عن الراحة والاطمئنان القلبي

      يبدو من القسم الأول الذي عنوانه "مقامات" أن القاص يستعين بالتصوف في إبداعه، فهو يستثمر تخصصه باعتباره باحثا أكاديميا في هذا المجال. هذا التأثر يتجلى انطلاقا من التسميات التي أعطاها لقصصه من جهة، ومضمونها وطبيعة شخوصها (مقام النوم، مقام الفز ، مقام القفز، مقام الهز، مقام التلفة) من جهة ثانية. تسميات تحملنا على الحذر في التفسير والتأويل، فالقارئ عليه أن يكون مشاركا ويقظا إن هو أراد المسك بخيوط القصص والاستمتاع بما تطرحه وتتناوله.

       لقد ظهر وكأن القاص يعيش حالة "جذبه" غايته فيها إشباع حاجاته، وتحقيق غاياته. يتدرج في مراحل كتابته؛ فغرضه هو البحث للوصول إلى الراحة، ودرجة الاطمئنان القلبي، مثل المتصوف الذي " يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة"[2]. لذلك نجده يغوص من خلال بعض شخوصه بحثا عن درجة الحلول الذاتي بكل الوسائل الممكنة:" – يا طيفي العزيز.. ها أنا أسرد سيرتك العطرة على مسامع أهلك من أحبابنا فوق دكانة بوطوبة.. يا سادتي، سواء كان الواحد منكم رجلا أو كان أنثى، أنتم تستطيعون العيش على الأرض الدنيا.. وهناك حيث يحتمل أن تعيشوا.. اعلموا أن عيني لم تعودا تريان لكثرة شوقهما إلى رؤية الطيف.. فولدته من جديد من حروفي وكلماتي.. ووضعته على ورقات كتيب عظيم الشأن"[3].

anfasse11012ليس من قبيل المصادفة أن واجه أهل مكة والعرب عموما رسالة رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام بأن قالوا له: "إنما أنت شاعر"، كما جاء في القرآن الكريم في سورة الطور: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ(31)َ﴾ وهذا ليس حاصل سوء فهم واختلاط عند الذائقة العربية فقط ، بل وليس حتى كما فسره المفسرون من أهل الدين أو الأدب الذين يقولون باقتراب القرآن المعجز في بيانه من الشعر الفصيح في التصوير البلاغي وأحيانا في الإيقاع، إذ نجد بعض الآيات منضبطة لإيقاع بحر شعري ما، ليس كل هذا وحده السبب، مع أن هذا حاصل ومتفق عليه من جهة ولا نود دفعه. لكن هناك تقاربا بين الدين والشعر من نواحي أخرى، وأهمها "موضوع المقالة" التنبؤ بالمستقبل.
لعل من معاني الشعر حسب كل قواميس ومعاجم العربية العلم، والعلم يمتد عبر الزمن من الماضي إلى المستقبل، "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة.... بوادي القرى إني إذن لسعيد." والعلم بالمستقبل في الدين واحد من أساسيات الاعتقاد، نعم إنه الإيمان بالغيب، وللشاعر أيضا إحساس مرهف يسمح له بتلمس ما سيحصل ولأنه لا يمكن في كل الأحوال أن ننفي عن الشعر عنصر الإلهام، هذا الذي يربط السماء (الفضاء الرحب، ملكوت الرموز زالأحلام) بالأرض (موطن الواقع والبؤس)، فإنه من المفروض التسليم للشاعر بإمكانية تنبؤ المستقبل رغم أن الشاعر قال:

anfasse22122ظهرت الشعرية في العصر الحديث كمصطلح عند رومان جاكبسون، الذي جعلها إحدى وظائف الاتصال الست، فـ"استهداف الرسالة بوصفها رسالة والتركيز على الرسالة لحسابها الخاص هو ما يطبع الوظيفة الشعرية للغة"[1]، لكن قصة الشعرية تعود إلى ما قبل الميلاد، إذ يعد كتاب أرسطو «فن الشعر» أقدم كتاب يذكر هذا المصطلح، وقد كان مرجعا أساسيا للنقاد الغربيين في تقعيدهم للشعرية.

الشعرية لغة هي تعريب للمصطلح الفرنسي poétique، الذي يرجع بدوره إلى الكلمة اللاتينية (peotica)، المشتقة من الكلمة الإغريقية (poiètikos) بمعنى كل ما هو مبتدع، مبتكر وخلاق، وكل ذلك مشتق من الفعل الإغريقي (poiein) بمعنى: فعل أو صنع « Faire » "[2]. وبهذا تتقاطع الدلالة اللغوية للشعرية مع الدلالة الاصطلاحية التي وصلت إليها في النقد المعاصر؛ فلم تعد الشعرية تقتصر على الشعر بل تجاوزته إلى النثر، و"اتسعت لتشمل فنونا إبداعية أخرى منها الفن التشكيلي والفن السينمائي"[3]، لتضم كل ما يتضمن إبداعا وخلقا. أما فيما يخص الترجمة، فقد تعددت المرادفات المقابلة لمصطلحpoétique ما بين: الشعرية، الشاعرية، الشعريات، فن الشعر، الشعرانية...[4] لكن الترجمة الرائجة عند معظم النقاد هي "الشعرية" رغم ما يثيره هذا المصطلح من تمويه خاصة بالنسبة للباحث المبتدئ؛ الذي يتوه أحيانا بين هذا المصطلح وبين اللفظة من حيث كونها مجرد نسبة لـ: الشعر.