يأتي هذا المقال في سياق التفاعل مع مداخلة الأستاذة رحمة بورقية رئيسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي خلال الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للمجلس التي عقدت يوم 30 ابريل 2025.
وسيقتصر تفاعلي على مبدإ أثار انتباهي عند تقديم الأستاذة بورقية لمقاربات اشتغال المجلس، حيث اعتبرت أن المجلس يعتمد "مبدأ الموضوعية التي لا تزعج ولا تجامل". وهو ما قادني للتساؤل حول إمكانية التوفيق بين عدم الازعاج وعدم المجاملة في مجلس ينتظر منه تقديم الآراء والتقييمات حول الواقع التربوي بالمغرب، وإفادة كل منظومات التربية والتكوين بمقترحات يراها صائبة وذات جدوى، إضافة إلى إخبار المجتمع عن الواقع الموضوعي لمدرسته وجامعته؟فكيف يمكن للمجلس الاشتغال وفق هذا المبدأ في ظل التطور الذي عرفته الأدوات الإحصائية ومؤشرات قياس النتائج التعليمية التي تستخدم في تحليل النظم التعليمية ومقارنة تطوراتها، وأيضا مقارنة السياسات التعليمية التي تنفذها الحكومات؟ علما أن هذا التطور أضفى صفة تقنية على تقييم النظم التعليمية، هيمن فيها النقاش التقني على النقاش السياسي. حيث أصبحت نتائج التقييمات أكثر معيارية الأمر الذي يدعم ويبرر التوصيات الناتجة عنها.
وحتى يكون الجواب عن الأسئلة السالفة الذكر موضوعيا، كان لابد من مقاربة "مبدا عدم الازعاج وعدم المجاملة" عبر المحاور التالية:
- المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم الإزعاج" و"عدم المجاملة"؛
- الأبعاد المهيكلة للمبدأ في الحوكمة التربوية؛
- الديناميات التفاعلية للمبدأ في صنع السياسات التربوية؛
I. المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم الإزعاج" و"عدم المجاملة"
توفيق أكياس - باحث في علوم التربيةيعرف "عدم الإزعاج" في السياق المؤسساتي بكونه رفض تبني مقاربات تصادمية قد تعرقل سير العملية الإصلاحية. أما "عدم المجاملة" فيعني تجنب المواربة في تشخيص الإشكالات وتقديم التوصيات. ويستند مبدآ "عدم الإزعاج" و"عدم المجاملة" إلى جذور فلسفية وأخلاقية عميقة، تشكّل أساسًا نظريًا لممارسات الحوكمة الرشيدة والمساءلة المؤسسية. فيما يلي أبرز المرجعيات الفلسفية لهذين المبدأين:
- المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم الإزعاج"
أ.الأخلاق النفعية (جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل)
تركز على "تعظيم المنفعة العامة" وتقليل الضرر. حيث يُفسر "عدم الإزعاج" بكونه التزاما بتجنب الأذى غير المبرر لأصحاب المصلحة، مع تحقيق أكبر فائدة من خلال الشفافية المتوازنة التي لا تخفي الحقائق ولا تُبالغ في التهويل.
ب.مبدأ عدم الضرر في الأخلاق الطبية (أبقراط و كانط )
يعد مبدأ عدم الضرر " أولاً، لا تؤذي"" أحد مبادئ "أخلاقيات الطب" التي امتدت إلى الأخلاق المؤسساتية، حيث يُطبق في الحوكمة من خلال نهج طريقة عمل تسمح بفهم أفضل للآثار السلبية على المشاريع أو البرامج المستقبلية. لضمان تعبئة جميع المتدخلين، عبر تجنب نشر معلومات تُسبب ذعرًا غير مبرر، والموازنة بين الإفصاح وحماية الاستقرار المؤسساتي.
ت. نظرية العدالة (جون رولز)
تشدد على "الإنصاف" ومراعاة الفئات الأضعف. وتتبنى "عدم الإزعاج" لعدم تحميل الأطراف غير المسؤولة عواقب تقارير مُضللة أو مبالغ فيها.
- المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم المجاملة"
أ. الأخلاق الكانطية (إيمانويل كانت)
تُؤكد على "الواجب الأخلاقي" والصدق كقيمة مطلقة، بغض النظر عن العواقب. إذ تعتبر " المجاملة" شكلا من " الكذب الأخلاقي" وتدعو إلى قول الحقيقة حتى لو كانت مُرة.
ب. الفلسفة الوجودية (سارتر)
تُطالب بتحمُّل المسؤولية الفردية ورفع " الزيف الاجتماعي" وترفض "المجاملة" باعتبارها محاولة لإرضاء السلطة على حساب الحقيقة.
ت. النزعة النقدية (مدرسة فرانكفورت - هابرماس)
- ترى أن "المجاملة" جزء من "العقلانية الأداتية" التي تُخضع الحقيقة لمصالح النخب. بينما تتطلب الحوكمة الرشيدة "فضاءً خطابيًا حرًا" (كمبدأ هابرماس في "الفعل التواصلي").
- التكامل بين المبدأين: الأخلاق التطبيقية
يجمع المبدآن بين "الواجب الكانطي" الذي يتجلى في قول الحقيقة. و"النتيجة النفعية" التي تتحقق بتقليل الضرر. ويستمدان شرعيتهما من تراث فلسفي يرتكز على ثلاثية فلسفية تسعى إلى خلق التوازن بينهما، تتجلى في:
- "الواقعية السياسية": اعتبار موازين القوى الفعلية ومراعاة السياق.
- "النزاهة الفكرية": التزام الموضوعية العلمية؛
- "الحكمة الإدارية|: مراعاة قابلية التنفيذ، إذ أن الحوكمة ليست قواعد فحسب، بل هي "ضمير مؤسساتي" يُوازن بين الحقائق والمصلحة العامة.
وهو ما يضعنا أمام "معضلة أخلاقية" تقودنا للتساؤل حول كيفية الموازنة بين الصدق المطلق، وتجنب العواقب السلبية النفعية؟
II. الأبعاد المهيكلة للمبدأ في الحوكمة التربوية
- البعد السياسي-المؤسساتي.
يتجلى في تحليل القوى المؤثرة من خلال تفاعل المجلس مع ثلاثي السلطة (التنفيذية، التشريعية، النقابية)، ورسمه لخرائط المصالح المتضاربة في المشهد التربوي. بهدف تحديد آليات التكيف المؤسساتي (الموقف الرسمي/الموقف الفعلي/آلية التوفيق).
- البعد السوسيو-تربوي
يُعد"البعد السوسيوتربوي" عنصرًا جوهريًا في الحوكمة التربوية، حيث يربط بين الممارسات التربوية والسياق المجتمعي، لضمان تكامل الأدوار بين المدرسة والمجتمع. فهو المكون الذي يدرس التفاعل بين العوامل الاجتماعية (القيم، الثقافة، العلاقات) والعوامل التربوية (المناهج، الإدارة، التقييم)، من خلال "رؤية سوسيوتربوية" تدمج بين "الكفاءة التعليمية" و. "العدالة الاجتماعية" و"المشاركة المجتمعية".
III.الديناميات التفاعلية للمبدأ في صنع السياسات التربوية
يقصد بالدينامية التفاعلية لمبدأي "عدم الإزعاج وعدم المجاملة" في صنع السياسات التربوية ما يلي:
- تقليل التعقيدات البيروقراطية في عملية صنع السياسات؛
- ضمان أن تكون الإجراءات سلسة وسريعة دون المساس بالجودة؛
- رفض المحسوبية أو التلاعب في صنع السياسات لصالح فئة معينة؛
- ضمان أن تكون القرارات مبنية على "أدلة وبيانات".
ومن أجل تحقيق هذه الدينامية يجب اعتماد الآليات التطبيقية التالية:
- التشخيص الفني المحايد، باعتماد منصات ذكاء اصطناعي لتحليل البيانات التربوية واقتراح سياسات مستندة إلى الأدلة؛
- التغليف السياسي، باعتماد سياسات مرنة وقابلة للتكيف، لا تحتاج إلى موافقات متعددة المستويات؛
- التنزيل الانتقائي، باستخدام "التجريب المراقب" قبل تعميم السياسات لتجنب الأخطاء الجسيمة؛
- نموذج تقييم توفيقي، يعتمد على هيئات تقييم خارجية لمراجعة السياسات، كما يستخدم مقاييس أداء واضحة لتقييم نجاح السياسات، بعيدا عن الانطباعات الشخصية (مؤشرات الأداء الرسمية (KPIs) -مقاييس التأثير الفعلي (Impact Metrics) -مؤشرات الاستجابة السياسية (PRI))
خلاصة
تبين من خلال هذه القراءة التحليلية في مبدأ "عدم الإزعاج وعدم المجاملة" أنه مقاربة فعالة لخلق توازن ديناميكي تحتاج إلى ذكاء مؤسساتي لقراءة المشهد بدقة، ومرونة تكتيكية للتحرك بين القيود، ورؤية استراتيجية لتحقيق التراكم الإصلاحي. إلا أن تطبيقه قد يواجه عدة تحديات تتجلى في:
- تحول المبدأ إلى "ثقافة التسويف" الأمر الذي سيؤثر سلبا على مصداقيته الفنية؛
- خطر تحول المرونة الزائدة إلى ضعف المتابعة وتشتت السياسات؛
- مقاومة التغيير من قبل من يستفيدون من الوضع الحالي؛
- صعوبة الفصل بين الموضوعية والصلابة المفرطة.
عموما، يمكن القول إن اعتماد المجلس الأعلى للتربية والتكوين بالمغرب لمبدأ "مبدأ الموضوعية التي لا تزعج ولا تجامل" في منهجية اشتغاله، لا ينم عن أي تناقض لأن الإصلاح التربوي الناجح يحتاج إلى جراحة دقيقة لا إلى مطرقة ثقيلة. إلا أن النجاح في تطبيق هذا المبدأ يتطلب نموذج تشغيليا قادرا على استيعاب التعقيدات، وتحويل التناقضات إلى طاقة إصلاحية، من أجل إنتاج تأثير تراكمي في المنظومة.