بنية الخطاب في القرآن سورة العلق نموذجا: الآيات (1-5) - رفيقة غيضاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مثلت المسائل اللغوية أبرز ما أهتم به الفكر المعاصر لما لها من الأهمية الكبر ى، فقد جسدت وضعية نظرية دقيقة، حيث أصبحت اللغة المركز الذي تدور عليه اهتمامات متعددة في مجالات مختلفة. فانفتاح الثقافات على بعضها البعض ولد الحاجة إلى هذا الاهتمام المتزايد باللغة داخل كل أمة، وداخل كل ثقافة، ذلك أن اللغات لا تختلف باختلاف الشعوب فحسب وإنما تختلف أيضا باختلاف الاهتمامات الفكرية. إذ لا محيد للفكر عن اللغة والخطاب، أو لعل الفكر هو بالأساس لغة. إذا التفكير في بنية خطابات اللغة هو مرتبط بالعالم وبالإنسان. فكم من كلمة أشعلت حروبا وأقامت الدنيا ولم تقعدها. وكم من كلمة تبركنا على أعتابها في أوقات الضيق لتزيل عنا كربنا وغمنا، وقد تأتي هذه الكلمة على لسان علامة أو مفتي، كما قد تأتي على لسان نبي.  وكم للكلمات الفواتح من فتح مبين. فوطن كل أمة أو شعب هي لغته التي بها تكلم، ذلك أن اللغة هي الأفق الذي فيه تتحدد علاقتنا بالعالم وبالآخر.

 واللغة ، التي نحن بصدد تناولها، لغة ربانية ومعطى سماوي مقدس، إذ نحن بصدد انزياح أو عروج عن وثنية تأصلت في وجدان الأمة العربية الإسلامية. إذ لعلنا اليوم أشد حاجة من أي وقت مضى إلى التفكر في اللغة وباللغة وفي إعادة طرح مسألة الخطاب القرآني، وحل كل رابطات حقوق الله وما تمثله من الرابطات من غطرسة على بنية القول والتفكير. 

فباسم المقدس ننسلخ عن آدميتنا، وباسم الدين تتعالى الأصوات لانتهاك ما هو بشري وتطويعه و تركيعه. وصار من الوجوب أن نعيد طرح "جهازنا " المفاهيمي من داخل النص القرآني وفق رؤية تكون مرجعيتها العقل والدين لأنه آن الأوان لرفع كل وصاية على ما هو مقدس، أو لرفع وصاية الأرض عن السماء. 

من المعروف أن النص القرآني لا زال يلهم الكثير من القراءات المتعددة، وما تتعرض إليه حضارتنا من هجوم خارجي وداخلي على الإسلام، خارجي وهي نظرة الغرب الصليبية للعرب والإسلام بما هو رمز للإرهاب والتطرف، وداخلي يتمثل في احتكار أو محاولة احتواء النص القرآني من طرف قلة ارتأت لنفسها المشروعية في التكلم باسم الإله، وأنها نخبة الله المختارة على الأرض وما عداها فهو ضلال مبين. فمن الواجب أن يعيد المفكر العربي والمسلم إعادة تفكير الإسلام كمنظومة دينية وفكرية، أي لابد من قراءة جديدة للخطاب الديني بما هو نص شديد الثراء وكثيف المعاني، نص قصصي البنية ورمزي المقاصد، والقطع مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للإسلام. وتجاوز القراءات الدغمائية السطحية للنص القرآني. وفضح كل قراءة تدعي أنها قادرة على معرفة كلام بشكل متطابق مع غاياته النهائية والأخيرة. هذه الضرورة إلى أعادة قراءة النص الأصلي أو الأم سمح بتعدد التفاسير واختلاف الرؤى في تفكيك الخطاب المقدس وهو منهج اشتهر به جاك دريدا1.إذ يطور دريدا منهج التأويل في حواره مع النص الصامت والذي يشكل مصدر لغط وغلو. ولم يبق الخطاب القرآني كوحي أو كحديث للآلهة بل قد ارتبط بالإنسان والنسيان وقد كانت دائما هناك محاولات للهيمنة على هذا الخطاب والسيطرة عليه. وما تميزت بالسطحية في تناولها وتفسيرها للخطاب القرآني والوقوف عند تخوم العبارة وذلك بالتداخل بين المقدس والدنيوي وتظهر الذات الإلهية متجسدة في صورة هي أقرب للبشر منها للآلهة، ويتبدى الخطاب مفعما بروح التضاد والتوتر بين السماء والأرض، خطاب عمودي متعالي أساسه الوعد والوعيد. في هذا التداخل والتشابك بينما هو إلهي فينا وما هو دنيوي بما أننا قد نفخ فينا من روحه.

إن مثل هذه التفاسير التسطيحية للنص أو للمتن القرآني قد تلحق تشويها لبنية الخطاب المقدس ولدلالتها. وتفسير ثان يهتم بالجانب الإعجازي ضمن الوحي في شكل ظواهر لغوية لها خاصياتها المتفردة وما يكسوها من طلاوة الخطاب وروح القصة والأسطورة. فهذا المنحى الإعجازي يفترض التعالي والسمو، ولقد عرض الله الرسالة على جميع الملائكة والجن فأبوا أن يحملوها وشفقوا منها لدقتها وجسامتها. وحملها الإنسان فكان جهولا، لجسامة هذه الرسالة وشرفها، والجهالة هنا تفيد الشجاعة والمكابرة. ولعل أولى هذه المكابرة والمكابدة في هذه المناظرة بين الله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم في اللحظة البكر من نزول الوحي، هذا الخطاب الفوقي المتعالي أكان رؤيا أم وحيا. والذي به خاطب جبريل محمد صلى الله عليه وسلم قائلا: "إقرأ باسم ربك الذي خلق(1)خلق الإنسان من علق( 2) إقرأ وربك الأكرم( 3) الذي علم بالقلم( 4) علم الإنسان ما لم يعلم(5)"

   فهذا العبد الأمي الضعيف يأمره الله عن طريق جبريل بالقراءة  ويضغط على ضلوعه حتى تكاد تميز بعضها عن بعض والنبي يكابد ويجاهد وهو العبد المأمور فتكون إجابته "ما أنا بقارئ" فوعي النبي بخوائه المعرفي، وماذا سيقرأ، يا له من وضع  دراماتولوجي كشف عن فحوى رسالة ليست بالعادية هذه المرة على المخيال العربي، ومن هنا يكمن شرف محتوى هذه الرسالة، إذ لعلنا لا نبالغ أو نغالي إذا نعتناها بالرسالة التبشيرية بحلول عصر الحداثة والأنوار في العصور الهجرية الأولى، وقيام جنس مخصوص من الخطاب لم يتعوده العرب من قبل حتى وإن تكلم لغتهم. "فالعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي."2

يأمر الله عن طريق الوحي محمدا بالقراءة للمرة الثالثة وقد درجت عادة عند العرب مع الرقم ثلاثة (الإعرابي يطلق امرأته بالثلاث ومن يعد ولم يوف بوعده يصوم ثلاث أيام، أو في مصطلحات الشعبية نهدد فنقول نعد للمرة الثالثة وإن لم يمتثل المخاطب يسلط عليه العقوبة وإلى غير ذلك من موروثنا الشعبي...) 

فيجيب النبي "ما أنا بقارئ" فيجاب "إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم".

ولفظة العلم هنا تتكرر للمرة الثالثة، فهناك تثوير للعقلية العربية، إذ نستشف أن هناك قطع مع مرحلة سبقت نزول الوحي اتسمت بعدم المعرفة أو بالجاهلية. وإن صحت العبارة بما قبل علمية، ثم الانتقال إلى مرحلة جديدة هي المرحلة العلمية. فأول كلمة أوحى بها هي الأمر بفعل القراءة "إقرأ" والتشديد على معنى العلم والتعلم ثم تردف بعبارة أخرى هي "القلم" وما نلحظه هو هذا التداخل بين ما هو منطوق وما هو مكتوب ويعدد الإمام محمد الطاهر بن عاشور أغراض عدة لنزول هذه السورة إذ يقول: "تلقين النبي محمد "ص" الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل. والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من شاء ابتداء وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.. ." 3

هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى النبي محمد لكن قبل محاولة فهم هذه الآيات وتفكيكها، لابد من التوقف عند نظرية الوحي كأداة تواصل بين المقدس والدنيوي فما الوحي؟ وما طبيعته؟ والكيفية التي تم بها النزول؟

 I/ الوحي كأداة تواصل بين المقدس والدنيوي .

إننا نعرف جميعا الدور الذي لعبه الوحي في جميع الأديان وما مثله من تحول على الصعيد المعرفي. إذ مثل نقلة نوعية على الصعيد الذهني والمعرفي ومجال اهتمامنا هنا هو القرآن ،وسورة العلق بالتحديد( 1 – 5) وهي السورة الفاتحة أو البكر للنص القرآني وهي ككل خطاب له بنيته الخاصة به، وتشريطاته التي تميزه عن غيره من الخطابات الأخرى. و "هي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة ونزل أولها بغار حراء.. وهي مكية باتفاق ..." 4 ولعل الحديث عن بنية الخطاب الديني يثير عدة صعوبات ولاسيما عند المبتدئين وقليلي الدارية مثلي. ومن بين هذه الصعوبات مفهوم "العلة الأولى" أو السبب الأول،مفهوم العقل والمعقولية، علاقة الوجود بالموجود، مفهوم الكوسموس اللامتناهي والزمان الأبدي،كيفية صدور المحدود عن اللامحدود، أو الكثرة عن الواحد. ومثل هذه الإشكاليات سنحاول مشاكستها بحس طفولي وعفوي مستنيرين في ذلك بتراث الأول. ولعل أولى الصعوبات التي تعترضنا هي النظرية المعرفية في الخطاب القرآني المركزة على حضور كثيف لمفهوم العقل، إذ لعلنا إزاء إعلان لخطاب عقلاني وما يثيره هذا لخطاب من صعوبات في مجال الإيمان والمعتقد .

فالخطاب موجه إلى مخاطبة ضمائر أو عقول الناس الوجدانية. إنه بمثابة لولادة العقل في الحضارة العربية الإسلامية. فإذا كانت السياسة والمدينة هي محور التفلسف عند الإغريق واليونان. فإن الدين هو أساس التفلسف عند العرب، إذ مثلت مسألة النبوة مصدر تفلسف بامتياز في الفلسفة العربية. "فمن هذه الناحية، لا يمثل الانتقال الطبيعي للفلسفة إلى العرب أو انتقال العرب إلى الفلسفة إلا المرحلة الأخيرة من تطور روح الأمة العربية... ليس نتيجة ترجمة استبدلا فيها كلمات بكلمات، بل افتتاح آفاق ومعان هي في حد ذاتها في غير حاجة إلى ألفاظ تدل عليها أصلا ".5

إن مسألة النبوة والتي تلتقي بمسألة أخرى أهم وهي قضية سياسية وتتمحور حول شخصية النبي.

فالسؤال الذي تحدى الفكر العربي منذ القدم هو مسألة النبوة. كيف يمكن لنا تفسير هذه الظاهرة عقليا؟ ولقد مثلت مسألة النبوة إشكالا حاول الفكر العربي الإسلامي معالجته وخصوصا مع الفرابي وقد تناول القرآن هذه المسألة مؤكدا على نبوة كل الأنبياء السابقين لمحمد والذين ذكروا في الكتب السماوية مثل التوراة والإنجيل يقول الفرابي: "ثم أن توصف النبوة ما هي، والوحي كما هو، وكيف يكون، ثم ما يوصف به الموت والحياة والآخرة (...) والضرب الثاني ما يوصف به الأنبياء والملوك الأفاضل ... "6 معتبرا أن نبوة محمد هي استمرارا لهذه الرسالة ونهاية لفترات النبوة. وقد تعرضت نبوة محمد إلى التشكيك من طرف العرب أنفسهم، كما حاول طيف آخر إنكارها ورفضها نهائيا، فانطلاقا من هذا التجاذب برزت نظرية نجد أساسها في القرآن ثم توسعت لتشمل الفقه وعلم الكلام وتقول هذه النظرية بأن النبي محمد هو شخص يتمتع بجملة من الخصال الأخلاقية والتي تمكنه من أن يقع انتقاءه من قبل الإله ليصبح رسول الله "ص" على العباد وخليفة على الأرض و "الرؤيا الصادقة أول ما بدئ به رسول الله : قال ابن إسحاق: فذكر الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة رض الله عنا أنها حدثته: أن أول ما بدئ به رسول الله "ص" من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به: "الرؤيا الصادقة (...) وحبب الله تعالى إلي الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده... "7 فهو ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء فيفتح به عيونا عميا وأذانا صما، وقلوبا غلفا.8 وهو أداة الربط بين الله والبشر وتجد هذه النظرية تجسيدها على النبي لما عرف به من أخلاق حميدة بين العرب، لكن بدا الأمر غير كاف للبعض أمام الهجوم الذي تعرضت له شخصية النبي من طرف من لم يصدق به ولعل ذلك يعود إلى افتقاده للمعجزة. إذا استثنينا معجزة القرآن والتي تبدو بدورها غير كافية لإقناع أصحاب الديانات الأخرى، ويعود ذلك إلى أن السلف من الأنبياء والسابقين لمحمد "ص" قد ظهرت لهم معجزات قبل النبوة، وإذا ما استثنينا معجزة الإسراء والمعراج  "قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي بن محمد بن إسحاق المطلبي قال: "ثم أسري برسول الله "ص" من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام بمكة في قريش، وفي القبائل كلها (..) فيه عبرة لأولي الألباب وهدي ورحمة وثبات لمن آمن وصدق ".9

باستثناء هذه المعجزة يكاد يخلو القرآن من ذكر أي معجزة أخرى. وتصبح النبوة من هذا المنطلق جملة من الخصائص التي تمتع بها شخص انتقاه الله ومكنه من جملة من الخصائص والقدرات التي تأهل بها لكي يكون رسولا. فكيف يمكن لشخص لا يعرف القراءة أن يؤسس خلافة؟ انتشر رواجها بين أصقاع العالم، والنبي الأمي هو الذي يملك جملة من الصفات تمكنه من استقبال المعرفة يمكن تسميتها بالحدسية أو الإشراقية، فإذا كانت علوم البشر أو العلوم الإنسانية تحصل باجتهاد البشر وسعيهم وراء طلب المعرفة، فإن العلم الإلهي، أو النبوة يحصل بلا سعي ولا دربة ولا يخضع لمنطق ولا لزمان وإنما يحصل بجملة من الأخلاق والصفات التي تمتاز بها شخصية النبي والوحي هو العلم الخاص بالرسل دون سائر البشر. "ثم كيف يكون الوحي، وبأي قوة يتلقاه من يوحى إليه وبواسطة منْ من الملائكة يوحى الله تعالى إلى الإنسان الذي سبيله أن يوحى إليه".10 إذا لا سبيل لغير الرسل من البشر إلى الوحي.

علوم الرسل مغايرة من حيث مصدرها ووسائلها للعلوم الإنسانية، إذ تفيض عليهم إلهاما إلهيا دون تزود بعلوم المنطق ومن غير حاجة إلى زمان للتعلم وهو أرقى العلوم والمعارف ويليها بقية العلوم الإنسانية وميزة العلم الإلهي "الوحي" موجز بين معصوم من الخطأ. 

وقد انقسمت التفسيرات في كيفية نزول الوحي على الرسول إلى شقين. شق يقول بأن الوحي كان في شكل رؤيا وشق ثان ذهب إلى أن جبريلا كان ملهم النبي للوحي وهو في غار حراء يتعبد، ولعل مثل هذه التفاسير تستدعي أو نستحضر من خلالها نظرية الفيض والتي تقر بأن الكون يتأسس على نوعين من الموجودات، موجودات واجبة الوجود وموجودات ممكنة الوجود، والكائن الواجب الوجود هو الأول يتميز بالوحدة وهو خير مطلق ومحض، يفيض عنه خير محض وبعملية الفيضان هذه تتأسس المعقولات الأخرى، وهو واحد لا يمكن أن تصدر عنه كثرة وهي ما يسمى بالعقل الأول، أو هو الله أعطى عقل ثان من خلال تأمله لنفسه، وتتواصل العملية وصولا إلى العقل العاشر وهو آخر العقول المفارقة وهو الذي يشرف على عالم ما تحت القمر يهب الصور عن طريق عملية نازلة يقول الفرابي: ".. وكيف يحدث العقل في الإنسان، وكيف فعل العقل الفعال في الجزء الناطق، وكم أصناف المعقولات الأول، وكيف يحدث في الإنسان المعقولات الأولى لا بإرادته عن العقل الفعال ." 11 وتبقى النبوة جنس مخصوص من المعرفة الحدسية، ومهمة النبي تمكن في تبليغ هذا الخطاب النظري إلى عامة الناس إلى ما هو محسوس وواقعي، ومسألة النبوة تصبح تفسر  بجملة من الصفات التي يتحلى بها شخص ما كي يصير نبيا، وبها يكون قادرا على تحصيل المعارف النظرية من خلال فيوضات العقل. والله لا يخلق نبي من لا شيء، بل النبي لا يصبح نبيا إلا من خلال هذه الصفات، والحل الذي ارتأته نظرية الفيض في قضية قدم العالم من حدوثه هو القول بأن الله سابق عن العالم بالذات لكنه ليس سابق عليه بالزمان. كذلك الأمر بالنسبة لصدور الكثرة عن الوحدة. ومن الواحد توجد الأشياء كما الحال بالنسبة للشمس وأشعتها، فالشمس ليست أشعتها لكن الشمس لا توجد دون أشعتها. وبهذا الشكل وقع التوفيق بين الحدوث والقدم، فالسبب الأول قديم وواحد ووجوده فيض وبوجوده تفيض عنه الموجودات، فالموجودات ليست الله، والله ليس الموجودات أو مخلوقاته .

إن تناولنا لمسألة النبوة ولظاهرة الوحي تحديدا بها هو عماد وركيزة الخطاب في القرآن وهو مقوم من مقومات الخطاب وبنيته يحيلنا ضرورة إلى محاولة تبين طابعه اللغوي ودلالاته.

II-بنية الخطاب القرآني من خلال سورة العلق 

شكل الخطاب في القرآن، رسالة سماوية حبا بها الرب العبد ليكون بها خليفته يروم لتأسيس المعرفة البيانية بوصفه يؤسس لميلاد ثقافة عربية تستمد أصولها من تلك المرجعيات الدينية انطلاقا من صرامة الخطاب القرآن المتجلية في الوحي الذي أحدث قطيعة مع مختلف أجناس الخطاب الأخرى التي طغت وكست اللسان العربي ومثل نزول الوحي دافعا للتميز والتفرد في وجدان الأمة العربية أثناء نزول الوحي، فورد النص القرآني نصا اعجازيا يرفل في أثواب الإبداع والجمالية وهو ما دفع العرب للاستئناس به في محاكاة طابعه البلاغي وتعد سورة العلق

أول وحي نزل على النبي يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور هي "أول ما أوحي به من القرآن" 12 رجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها، وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في المرا ت الثلاث "إقرأ" إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس به بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل ."13 وهي إعادة تكرير لصقل اللسان وترييضه على القراءة والتبليغ فحسب التفاسير المورثة والمتداولة "فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهذا أول رحمة رحم الله بها العباد (...) وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة (...) والعلم تارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي" 14

فسورة العلق مكية وترتيبها 96 من المصحف تكلم من خلالها جبريل هذه المرة العربية وسكت إلى الأبد، وكانت آخر علاقة ربطت الله بعالم العباد، وآخر علاقة الإنسان بربه، كان وحيا منقولا باللغة العربية، ومنها انقطعت أخبار الله عن عباده ،ولم يبق للبشر سوى هذه الشفرات والتي دونت في كتاب هو القرآن. 

ولعل الاهتمام بالجانب اللغوي قد كان شحيحا وتميز بالندرة. ولعله يرجع إلى عدم تجاسر الفكر على خطاب الآلهة وعلى المقدس، إذ مجال القرآن هو مجال المقدس، هو مجال الاعتقاد فحسب، وقد تميزت المقاربة اللغوية للمتن القرآني بمنحيين اثنين. 

الأول ركز على القراءة الحرفية ونقلها كما هي والتركيز على ظاهر النص، والثاني يرى أن كل الخطابات المقدسة هو تشغيل لنظام لغوي لفظي للثقافة الخاصة بالمجتمع وفق بنية متجلية في قصصه وخيالاته ونلاحظ أن عبارات مثل "علم بالقلم" تؤخذ على حرفيتها من قبل التفسير التقليدي وقد اختلفت الآراء والجدالات بين المسلمين قد يحيد بنا عن اهتمامنا الرئيسي، كما أهملت التفاسير القديمة القيمة المجازية لباطن الخطاب ومضمونه. فكيف لنا أن نستفيد من القراءتين؟ 

إن عدم وجود نظرية واضحة لتحليل بنية الخطاب الديني يحتاج إلى إعادة النظر من جديد في بنية الخطاب القرآني ومقوماته من طرف الأكادميين المختصين لإعادة البريق للخطاب وفهمه دون السطو عليه وتحميله ما أنزل به الله من سلطان. هذا الخطاب المنفتح على المطلق بإعجازه وإلغازه، إنه نص ملغز، لم تستوفه القراءات حقه ولن تستنفذ معانيه ومحتواه. لقد ألقى الرب وولى وترك المأمورية للإنسان في توليد المعنى وإنجازه، حيث يتبين لنا أن الخطاب كبنية موحدة لغويا: "طبقا لتقنية الإقناع والإنتاج والتأسيس أو التعليم وباللغة السيميائية يمكننا القول بأن كل وحدة نصية من وحدات الخطاب القرآني مبنية على أساس سلسلة متسلسلة من الأحداث المركبة على هيئة بنية دراماتيكية أو مسرحية".15 ولعل هذا الصراع أو الدراما التي يحيلنا عليه النص القرآني تخترق كامل الخطاب المنزل هو صراع بين عدة أطراف بين محمد من جهة وأتباعه والرافضين لهذه الدعوة من جهة أخرى، والذي قد يرؤدي إلى الحروب وإلى إ راقة الدماء وزهق الأنفس. فقد قام الخطاب القرآني على جملة من الثنائيات، وعد و وعيد، وعد للذين آمنوا ووعيد للذين كابروا وعصوا، وعد بجنان عدن، ووعيد بجهنم وبئس المصير، ومثل هذه الأساليب تحضر بكثافة في النص القرآني للوصول إلى هدفه، أي إلى نصرة الخطاب الديني ودحض كل الجدالات السوفسطائية المعارضة والداحضة لمضمون الخطاب الديني، وهو ما يكشف خصوصية هذا الخطاب عن كل ضروب القول الأخرى. فكل مقطع  أو آية هي عبارة عن وحدة نصية بأكملها واضحة المعالم وهي نص قائم البنية مثل "خلق الإنسان من علق" فهذه الآية أو المقطع بمفرده يحيل عن رؤية علمية أو نظرية معرفية علمية، فتبين المراحل التي يمر بها تكون الجنين، فأولى مراحل الخلق الأولى للإنسان كانت "ماء دافق" أو "نطفة" فمثل هذه العبارات تحيلنا إلى معجم علمي لمراحل تكون الإنسان فهذا الإجاز وهذا الوضوح أضفى على الخطاب القرآني بعدا جماليا لازم الخطاب نصا ومضمونا عجزت كل المنافسات بين اللغويين على الإتيان بمثله. "ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافا تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل ..." 16 ويفيد حرف (من) معنى الابتداء في الخلق كما يفيد فعل "اقرأ" الثاني تأكيد لـ "اقرأ"الأول للاهتمام بهذا الأمر على عبارة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.17

كما يتضمن الخطاب القرآني بعدين، بعد أول هو المنطوق والبعد الثاني هو المكتوب. ففي البدء ورد الوحي نصا شفويا  إخباريا، معتمدا على جملة من العلامات والإيحاءات  لتبليغ المعنى، فقبله البعض ورفضه البعض الآخر، كما نعلم أن مكانة المنطوق قد وقع تأييدها إلى يومنا هذا فترى الناس يتنافسون على الإلقاء ويحتفلون به. وشحذ الذاكرة على تقوية قدرتها على الحفظ عن ظهر قلب للنص القرآني وقلة هم الذين يحصل لهم هذا الشرف، وهو تأكيد على القيمة اللغوية المنطوقة أو الشفوية، إلا أن استشهاد البعض بالآيات القرآنية يختلف عن الاستعمال أو عملية النطق الأولى هذه والتي قد سكتت إلى الأبد بموت النبي أو قد ضاعت عبر الأثير بموته.

فالسند الأصلي للخطاب القرآني مفقود، فالنبي أوحى له به، وهو نقله شفاهيا، وهذه النسخة الشفاهية فقدت وغير موجودة، وما وجد هو جمع الوحي وكتابته وهذه العملية بدأت منذ حياة الرسول وتواصلت حتى بعد مماته، وهو المنحى الثاني، وهو المكتوب والذي جمع في المصحف وهو مدو ن في كتاب مقروء. إذ تتعدد القراءات، فهناك التي تركز على ظاهر النص وتتمسك بحرفيته أو مباشريته. وقراءة باطنية للقرآن أو قراءة تأويلية – إن جازت العبارة – لباطن النص ولمعانية ودلالاته الغير مرئية. يقول الشيخ بن عاشور "ومقتضى الظاهر: وعلم بالقلم، فعدِل على الإضمار لتأكيد ما يشعر به ربك من العناية المستفادة من قولة "اقرأ باسم ربك" وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبده إتماما لنعمة الربوبية عليه."18 ولا عجب في أن يقرأ محمد وإن لم يكن من قبل عالما بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى "مثل الإملاء والتلقين والإلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئا".19 وعدم معرفة النبي بالقراءة والكتابة لا يكون سببا في امتناع أو استحالة فعل القراءة، لأن الله "علم الإنسان ما لم يعلم" فالذي علم القراءة بالكتابة قادر على أن يعلمه القراءة دون سبق معرفة بالكتابة، فالعلم مسبوق بالجهل وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة ومن أجل ذلك أمر الرسول بكتابة الوحي وتدوينه في مصحف. 

وتعدد القراءات للنص القرآني، أثمر رغم تقاطع القراءات لإنتاج معرفة إسلامية يرتفع بها الفرد إلى مستوى الحضارة وبها نحت ذاته في ندية للآخر، وتشكل مجموعة نصوص القرآن مرجعية مقدسة للمسلم لا يعتريها التغير والتبديل بينما الإنسان بطبيعته موجود متطور ومتحول فكيف يمكن الجمع بين عنصري الثبات والتحول؟ العالم عالمان، عالم الحقيقة المحضة والوحدة وعالم ثان هو عالم الكثرة والفساد، وقد أثر هذا التصور في التفكير الإسلامي التقليدي، وهي أرضية انبنت عليها معالم الاتصال بين الخالق ومخلوقاته وهو توجه طاغ عند القدماء، هي النظر دائما إلى عالم السماء، فكانت الأعناق دائما مشرئبة نحو السماء، تأملا لعالم الكمال والخير المحض ونادرا ما تلتفت هذه الأعناق إلى عالم الأرض، وهو العالم الذي وقع نسيانه أو هجرانه وليس من الغريب في شيء من أن نعتبر الدنيا دنيئة وزائلة ورجس وجب التطهر منه – في حين أمر الله عبده بالقراءة وحثه على الفعل والحركة، وكلفه باستخلافه على الأرض وأن لا حقيقة تعلو عن أحقيته هذه في تجسيد الروح الإلهية على الأرض ونشر قيمها. وهي حقيقته الأصل التي بفقدانها تشظت الذات الإنسانية تحت وطأة حال من الغربة عن ذاتها وعن الله .فالله قد قال كلمته أو سره للبشر وأوكل المهمة لعباده دون سيادة شق عن الآخر، ومنذ موت النبي انقطعت هذه العلاقة، وانقطعت كلمات الله عن الإنسان إلا أنه أودع معاني هذه الكلمات في القرآن - ولعل لفظ "دنيا" يحيلنا إلى ما هو دنيء ودنيوي ولذا وجبت محاربته عند البعض فتضاءلت قدرة الإنسان على نحت كيانه والأمر موكول إلى العلاقة المغلوطة التي بنيت بين الإنسان والدنيوي بمعنى العزوف عن طلبه، إذ نلحظ هذا التضارب الصارخ بين ما تدعو إليه الديانة الإسلامية وما عاشته المجتمعات، والمتأمل في الخطاب القرآني يجد صورة من المنشود في الدين والوقف عند الموجود في الممارسة الاجتماعية فـ "الوحي المتجلي في القرآن شامل وكامل ويلبي حاجات المؤمنين ويجيب على تساؤلاتهم، ولكن هذا الوحي القرآني لا يستنفد كلمة الله كلها. فالواقع أن الوحي ككل محفوظ في الكتاب السماوي (في أم الكتاب كما يقول القرآن أو في لوح محفوظ) ينبغي أن نعلم أن مفهوم الكتاب السماوي المعروض بقوة شديدة في القرآن هو في الواقع أحد الرموز القديمة للمخيال الديني المشترك الذي كان شائعا في الشرق الأوسط القديم ".20 على الرغم من أن القرآن نفسه يلح على وجود كلام إلهي، أزلي لا نهائي محفوظ في أم الكتاب. وعلى وجود وحي منزل على الأرض بصفته الجزء المتجلي والمرئي ،والممكن التعبير عنه لغويا، والممكن قراءته وهذا التمييز الذي يقيمه أركون بين المستوى المتعالي كليا للوحي وبين المستوى المتجلي تاريخيا في لغة بشرية معينة ومن خلال حروفها وأصواتها ونحوها وصرفها أمر بالغ الأهمية. فالمستوى الأول لا يمكن أن يصل إليه بشري ولا حتى الأنبياء لأنه يمثل "أم الكتاب" وهو عند الله فقط، وأما المستوى الثاني الذي تجلى للبشر في الأرض فهو ذو بعد تاريخي على الرغم من استلهامه المستوى الأول وهو يتجسد في القرآن أو في التوارة أو الإنجيل... إنه يمثل كلام الله المخلوق كما تقر بذلك المعتزلة، وهو جزء من كلام الله اللانهائي بصفته إحدى صفات الله. هذا التمييز بين نوعين من الوحي يجد تجسيده في نظرية المعتزلة القائلة بخلق القرآن. 

تعد الأسطورة أسا من عمارة النص القرآني وخصوصا في المرحلة المكية وهي حاضرة بكثافة في النص المقدس، أو هناك شيء من التداخل بين ما هو مقدس وما هو أسطورة وما سبقه من النصوص المقدسة الأخرى. وأن تاريخ النصوص المقدسة يحكمه منطق التواصل لا منطق القطيعة، فجبريل كان مرسال الله الوحيد في نقل الوحي أن تنزيله على الأنبياء، من انجيل إلى توارة وصولا إلى القرآن. أي أن هناك إمتداد لجملة من النصوص والقصص داخل المتن القرآني، وجمعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك بين جميع الديانات التوحيدية على الأقل،ترجع لرب واحد والناطق الوحيد بين جميع الرسل والله كان جبريلا. فالنص القرآني قد يتأثر بنصوص سابقة عليه في الزمن، وهكذا تتشاكل النصوص المقدسة وتتداخل في لقاء تناد و تناص، وهو ما نجده في العديد من المواضع في القرآن ونذكر على سبيل الذكر "أسطورة الكهف" فنجد الآية تقول "نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ." البقرة 13. فالباحث في النص القرآني قد يجد ما ليس بالحقيقة التاريخية، فالمادة التاريخية في القرآن قد جاوزت حدود الحق إلى الخرافة قد يتعارض العقل العلمي مع المعتقد الإيماني، وهو ما دفع المشركين والمناهضين للدعوة الإسلامية في مكة أن يقولوا إن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين، والمتأمل في النص القرآني أن الآيات التي عرضت الأسطورة هي في مجملها مكية والذي يفهم من ذلك أن حديث المشركين عن أساطير الأولين في القرآن كان من أهل مكة ولم يقل بذلك أحد في المدينة بعد الهجرة إليها، والذين قالوا هذا الرأي هم في الغالب منكروالبعث والحساب، الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة وقد انقطع القول بالأساطير عندما هاجر النبي إلى المدينة ارتباطا بالبيئة التي انتقل إليها النبي والتي كانت قد تثقفت ثقافة كتابية بفضل أهل الكتاب، فانتشرت الحقائق وسادت محل الأساطير والخرافات، وقد يتعارض مجال العلم مع مجال الاعتقاد. إلا أن حضور الأسطورة في بنية الخطاب في النص القرآني قد مثل بعدا من أبعاد جماليات النص القرآني. 

III-البعد الجمالي في النص القرآني .

تشد الأديان أتباعها بشاعرية نصوصها ووقع كلمتها على النفس، وجاذبية الصوت على حاسة السمع وعمل المخيلة، بل حتى بأماكنها وألوانها وزخرفها وروائحها، أكثر مما تسدهم بمنطق حججها وبراهينها، فالمعلومات التي تسعى الأديان إلى تزودها تنشئها الخبرات العلمية أكثر مما يكونها التفكير الذهني، كما أنها معلومات ذات صبغة شعورية قبل أن تكون استدلالية. وليست الأعمال التي تتطلبها شعائر الأديان محاضرات علمية بل هي طقوس شعورية روحية،وهو ما يصح على الأديان كلها ولا يقتصر على الدين الإسلامي وحده وهذا ما يوضحه الكاتب الألماني نفيد كرماني في كتابه "بلاغة النور / جماليات النص القرآني" يتناول فيه بالدرس علاقة المسلمين بالقرآن وما للعوامل الشعورية من بالغ الأهمية في بناء هذه العلاقة والحال أن البعد الجمالي للقرآن أمر له أهمية محورية في الدين الإسلامي، ذلك لما لسحر وجمال لغة القرآن، وهما عماد معجزة القرآن، إذ يرى الكاتب أن علم الدراسات الإسلامية في الغرب قد تجاهل مسألة الإعجاز في اللغة وبلاغتها التي قال بها المسلمون بل اعتبرها من قبيل أساطير الأولين المضادة للعقل. إذ استطاعت العبارة أو الكلمة أن تمارس على النفوس سحرا وشعورا بأنه أحسن كتاب على الإطلاق أدبا ولغة وبلاغة وجمالا، وهو معجز للأفراد والجماعات، حسب عبارة الباحثة أنجليكا نويفرت عند تحديدها للغرض من علم الإعجاز في القرآن. ولعل هذا ما جعل البعض يرفضون إدراك مضمون الوحي في القرآن عن طريق الترجمة إذ يشير كرماني في هذا الصدد إلى أنه غالبا ما يتم تفسير التمسك بعدم إمكان ترجمة القرآن بأنه دليل إضافي على ضيق الأفق عند المسلمين. 

فهذا التأثير الذي لا يقاوم لمجرد سماع القرآن على صحابة النبي ومعاصريه، ومنها قصص تذكر أن أناسا يعلنون إسلامهم عند مجرد سماع آية واحدة من القرآن ولعلنا لا نملك القدرة على إخفاء هذا الشعور عند سماعنا لصوت مقرئ ينبعث مع انبعاث نسيمات مغيب من صومعة جامع في شهر  رمضان، وخاصة عندما يكون هذا المقرئ الشيخ عبد الباسط، تعانق نغماته أفول إشعاعات شمس تتوارى خجولة وراء جبل جاثم على صدر الأرض. سعى عديد من الباحثين عن الأسباب التي جعلت من النبي محمد ينجح في تبليغ رسالته ودعوته، ولعل السمة البلاغية التي للقرآن قد كانت العامل الحاسم في انتشار الإسلام. 

فسحر اللغة في القرآن بات من الأركان التي تأسست عليها هوية المسلمين، الاعتقاد بفن البيان عند العرب وبإعجاز أسلوب القرآن وليس في استطاعة أفصح الفصحاء الإتيان بمثله ،فإعجاز القرآن هو دليل واضح على أن ما يربط الأفراد المسلمين واقتناعهم بأن الإعجاز هو الحقيقة الموضوعية كما انه صالح لكل زمان، فقد كان لزاما على النبي محمد المرسل إلى قوم يشتهرون أكثر ما يشتهرون بشعائرهم، أن تكون معجزته عملا لغويا معجزا. 

فقد أثار القرآن لدى أهل قريش رهبة وحيرة وذهولا، إذ هزمهم النبي في مجال قوتهم وهو الرجل الأمي ألا وهو مجال الشعر وسلبهم أعتى أسلحتهم وهو السمو باللغة العربية إلى مجال الألوهية والقداسة وعبثا حاول الشعراء محاكاة هذا السحر والإتيان بمثله يقول كرماني أنه من الجائز أن نسمي القرآن سحرا لقد حضر السحر في اللغة العربية القرآنية ولعل هذا السحر الذي للغة يتجلى بالخصوص في المناسبات الدينية .

خاتمة 

تحتل مشكلة اللغة اليوم أكثر من أي وقت مضى "الأفق العالمي" وتشغل الأبحاث على اختلافها، وتتسرب بين ثنايا الخطاب في الوقت الذي حاولت فيه كلمة "اللغة" التواري والتستر وراء أقنعة مختلفة باختلاف التوجهات والمقاصد، وقد لا يخلو الخطاب الديني من سحر بيان وإعجاز لغوي، سما به عن بقية الخطابات الأخرى، ولعل هذا التميز وهذه الفرادة قد جعلا من لغة القرآن وبنية خطابه، لغة مخصوصة وجنس قول مخصوص، وهذه القداسة قد أغرت البعض إلى انتحل شيء من هذه القدسية والتستر باسم الدين، والحلال، وراء سلطان الكلمة وسحرها. فالإنسان يشبه الإله وفيه الشيء الكثير من روحه. غير أن الأول مقولة سكنت الصراع والتاريخ، في حين أن الثاني مقولة قد فارقت التاريخ وبحلول الإنسان في التاريخ قد جعل منه كائنا رامزا يتحرك في فضاء لغوي، إلا أنه رغم محاولاته السمو بلغته، فقد بقيت قاصرة ا إزاء الإعجاز اللغوي للنص القرآني، ولعل هذه الأهمية للخطاب القرآني، جعل من الخطاب الديني خطابا مفتوحا على بقية الخطابات الأخرى دون نفي أو إقصاء. فالدين كما الفلسفة جنسا مخصوصا من القول. والخطاب الديني كما القول الفلسفي في علاقة تضايف وتشاكل.  

قائمة المصادر والمارجع المصادر: 

القرآ ن

سورة العلق الآيات(1- 5)

  المراجع:

1. جاك دريدا فيلسوف فرنسي( 1930- 2004) اشتغل هذا الفيلسوف على المنهج التفكيكي الذي يعود إلى هايدقير( 1889-1933) لكنه أعاد بلورته وتطعيمه بمنهجيات الألسنيات الحديثة وطبقه على تاريخ الميتافيزيقا الغربية بداية من أفلاطون وصولا لهايدقير 

2.ابن كثير، ط 2، دار المعرفة، بيروت، سنة 1988، ص 564.

3.محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثلاثون، ط، الدار التونسية للنشر، تونس 1984.

4. محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير  ،432، ج 30. 

5.محمد محجوب، المدينة والخيال د ارسات فرابية، دار أمية، الطبعة الأولى، ص 62.

6.الفرابي، كتاب الملة ونصوص أخر ى، حققها وقدم لها وعلق عليها محسن مهدي، الفقرة 2، ص 45، دار المشرق، بيروت، 1968.

7.ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق، طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، الجزء

1+2، ص 63.

8. ابن هشام،  نفس المرجع السابق.

9.ابن هشام ،السيرة النبوية، ص 242. 

10.الفرابي ،كتاب الملة، الفصل الرابع، ص 83.

11 .محمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير، الجزء الثلاثون، ص 434.

12. .محمد الطاهر بن عاشور, نفس المرجع السابق، ص 436.

13. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، لبنان، الطبعة الثانية 1988، ص

 .564

14.محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة بيروت. 

15.محمد الطاهر بن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،ص 438. 

16.محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ص 35. 

17. محمد أركون،  نفس المرجع السابق.

18. محمد الطاهر بن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،ص 439. 

19. محمد الطاهر بن عاشور ،نفس المرجع السابق، ص 439.

20.محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة بيروت.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟