تنبيهات (4): الجابري من الفلسفة إلى البلاغة التطبيقية - البشير النحلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

«أريد أن أؤكّد، إن كان هذا يحتاج إلى تأكيد، أن الكتاب يقع داخل الإسلام ومن أجله لا خارجه ولا ضدّه. هدفه تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة، وسائل الحضارة العربية طبعا، معزّزة ومؤيّدة بمكاسب ومنجزات الفكر الحديث والمعاصر. باختصار، طموحي كان ولا يزال هو عقلنة فهمنا للإسلام دينا ودنيا. الكتاب الأول والثاني يحاولان أن يعقلنا فهمنا للإسلام كتراث فكري ديني مجرد، كعقل مجرد. وهذا الكتاب يحاول أن يعقلن فهمنا للإسلام كمسيرة حضارية، كدولة وسياسة. وربما أطمح أيضا أن نتمكن يوما من تجاوز المعادلة الصعبة الخاصة بالأصالة / المعاصرة، إذا استطعنا أن نعقلن فهمنا للدين والدنيا معا.»[i]

«والدّوغمائية تقوم في جوهرها على تقديم مفتاح وحيدٍ يفتح جميع الأبواب. والمفتاح الّذي من هذا النّوع هو واحد من اثنين: إما مفتاح بوليس وإما مفتاح لصوص»[ii]

فاتحة:

   تشكِّل المناقشة التّالية الجزء الثّاني الّذي نخصّصه لمقال العمري »الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية في أعمال الجابري « المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي  المعنون بـ»محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة«. وقد أدرنا المقال الأوّل على محورين: الأوّل هو اعتراض العمري على جمع البلاغة والنّحو والفقة والأصول وعلم الكلام في إطار "النّظام البياني"، والثّاني هو ادّعاء العمري تحوّل الجابري من الفلسفة إلى البلاغة. وندير المقال الحالي على ثلاثة محاور، الأوّل هو استدراك العمري على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم"!، والثّاني هو قوله إنّه "كان الأجدر بالجابري تناولَ "العقل السياسي" و "العقل الأخلاقي" ضمن مبحث البيان"، والثّالث هو "حسمه" في موقع رباعية "التفسير" بالنسبة إلى رباعيّته "النقد"، والزّعم أنّ الثّانية خرجت من الفلسفة إلى البلاغة التّطبيقيّة.

1.   الاستدراك على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم":

   يقول العمري: «أعتقد أن هذا التحول نحو المجال البلاغي بدأ بمجرد الخروج من الجزأين الأول والثاني من نقد العقل العربي (التكوين والبنية): فبقطع النظر عن صلابة الرؤية وتماسك المنظومة في العقول الثلاثة (العرفاني والبياني والبرهاني) التي يدور حولها الكتابان، فلا نقاش في أن التصنيف هنا مبني على مستوى المعقولية التي تتصاعد صلابتها من العرفان إلى البيان، ومن ثم إلى البرهان. ونظرا إلى أن البرهان لم يستعمل بمعناه المنطقي الدقيق –بحسب تصريح الباحث- بقيت هناك درجة رابعة )عليا) في سلم المعقولية، هي درجة العقل البرهاني بحق. وربما تكون الرتبة التي سيحتلها «الفكر العلمي» الذي فكر الجابري في تناوله بعد الانتهاء من رباعية نقد العقل، كما جاء في مقدمة مدخل إلى القرآن الكريم. وبذلك نكون بصدد سلّم للصلابة العقلية من أربع درجات: عرفاني وبياني وبرهاني شبيه وبرهاني صميم.»[iii]

 

   أوردنا كلام العمري بلفظه، وفيه أنّ "الجابري لم يستعمل مفهوم "البرهان" بمعناه المنطقي الدّقيق"، وهو ما يعني، بالنّسبة له، أنّ "البرهان" عند هذا الفيلسوف يمكن أن يقسّم إلى "البرهاني الشّبيه" و"البرهاني الصّميم"، وهذا القسم الأخير هو درجة خاصّة بالفكر العلمي الّذي، يقول العمري، إنّ الجابري صرّح في مقدّمة كتابه " مدخل إلى القرآن الكريم" أنّه كان من الموضوعات الّتي فكّر في تناولها قبل الانصراف إلى التّأليف في "القرآن". ولكنّ الواقع أنّ الجابري لم يستعمل "البرهان" لا بالمعنى المنطقي الدّقيق، ولا بالمعنى المنطقي أصلا. والعمري إذ يسْقِط كلمة "نظام" ويحتفظ بكلمة "البرهان" ويجعل المفهوم منها هو نفسه المفهوم من "النظام المعرفي البرهاني" و"يبني" على ذلك أنّ الجابري لم يستعمله بالمعنى الدّقيق، إنّما يفعل ذلك لكي يوهم بأنّ الفيلسوف يحفظ للبرهان، في استعمالاته المختلفة، انتماءه لعلم المنطق. وبذلك، يغَيِّب المعنى الّذي يعطيه الفيلسوف لمفهوم "النّظام المعرفي"، ومنه النّظام البرهاني، ويسْقِط سياقات الاستعمال وشبكة المفاهيم التي يقع ضمنها هذا المفهوم ويتفاعل معها وينبني ويتشكّل في إطارها؛ بل إنّه لا يلتفت حتّى إلى تعريف الفيلسوف "الأولي المجرّد لمفهوم "النّظام المعرفي"[iv]. والدّافع إلى ذلك لا يخفى: إثبات عدم "صلابة الرؤية وتماسك المنظومة في العقول الثّلاثة (العرفاني والبياني والبرهاني)"، وإن صرّح بأنّه يناقش ذلك "بقطع النّظر عن تلك الصّلابة"! ولأنّ كلّ غرض سفسطائيّ يوقع صاحبه في التّهافت، فإنّ العمري لا ينتبه إلى أنّ "هواه " جرّه، جهارا، إلى تخليط لا يليق، فَيشَعّب البرهان إلى "برهاني صميم وبرهاني شبيه"؛ متّبعا، بذلك، فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان في إسقاط درجات سلّم منطقيّ متوهّم على تصنيف الجابري، آخذاً بـمزاعمه[v]. وهو في هذا كلّه يجهل ما يتحدّث عنه الجابري، أو يسْقِطه عامدا، ولا ثالث هنا: إنّه يجهل أنّ الجابري يتعامل مع المنطق الأرسطي نفسه «بوصفه منهجا وليس بوصفه منطقا صوريا[vi]»؛ وأنّ المنطق الصّوري نفسه إمّا أن ينفع، وإمّا أن يكون بالغ الضّرر، بحسب التّوظيف. وقد بيّن صاحب "نقد العقل العربي" أنّه كان من أسباب استقالة العقل في سياقات معينة. واستقالة العقل اليوناني نفسه يعزوها، موافقا "فيستوجيير"[vii] الّذي استعار منه صفة "العقل المستقيل"، إلى اعتماد العقلانيّة اليونانيّة «على المنشآت الفكرية الاستنباطية دون اللجوء إلى التجربة، بلهَ الاحتكام إليها»[viii]، وعلى نفس الأساس وجّه نقده، مثلا، للمبدأ المنهجي الّذي اعتمده الخليل واللّغويّون من بعده، الّذين إن قاموا بعمل علميّ جدير بالتّنويه، لما وفّروه له، من الزّاوية المنطقيّة المحض، من «صرامة منطقية وعقلية رياضية راقية»، فإنّهم لم ينتبهوا إلى أنّ «المنطق شيء والواقع الحي شيء آخر. ويجب أن يكون المنطق في خدمة الواقع الحي لا العكس. وعندما يتعلق الأمر بواقع حي متَطوّر فإنه من الضروري ترك «الحرية» لمنطق التطور، وهو غير المنطق الرياضي، وإلا أدى فرض القوالب المنطقية الصورية على ذلك الواقع إلى قتل الحياة فيه، فيكون مآله التحجر والتوقف عن النمو. [ix]»

   يبيح العمري لنفسه أن يفرِّغ "النّظام البرهاني" في تقسيم الجابري من محتواه، ويلْحِق ذلك المحتوى بـ"البرهاني الشّبيه"، ويحجز رتبة "البرهاني الصميم" «للفكر العلمي». وهو عيثٌ مقصود. ورغم أنّه يبتدئ عبارته الّتي يحجز بها تلك الرّتبة للفكر العلمي بكلمة "ربما" الّتي تفيد الاحتمال، فإنّ "بقاء" درجة عليا في سلّم المعقوليّة هو أمر محسوم في نظره، ودليله "أنّ الجابري لا يستعمل البرهان بمعناه المنطقي الدّقيق"، فلا يبقى سوى ما يجب وضعه في تلك "الدرجة" المتمثّلة في "البرهاني الصميم". وبذلك يتّضح أنّ إدخال كلمة "ربّما" في الجملة، بعد الحسم في وجود هذه الدّرجة المهملة، هو مجرّد إجراء مغلّط يناور من خلاله كي يلحق «الفكر العلمي» بتلك الدّرجة الّتي بقيت "خلاء" في فكر الجابري تنتظر من يضع فيها ما يلائم. وهل هناك غير العمري من يقدر، بتعالم فاضح، أن يضع فيها ما يلائم أهواءه، ويستدلّ على صواب وضع "الفكر العلمي" في درجة "النظام البرهاني الصميم" بكون الجابري نفسه قال في مقدّمة كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، إنّه فكّر في تناول "الفكر العلمي" بعد الانتهاء من رباعيّة "نقد العقل". ماذا يبقى؟ يبقى الاستنتاج: «وبذلك نكون بصدد سلّم للصلابة العقلية من أربع درجات: عرفاني وبياني وبرهاني شبيه وبرهاني صميم».

   تصريح الجابري بأنّ "الفكر العلمي" من الموضوعات التي كانت تشغله لا يمكن أن تبْني عليه هذه "الزيادة" العجيبة إلّا بكثير من الجراءة والاستخفاف. وقد كفى الجابري نفسه العمري عناء التّفكير المتثبّت ولم يترك له إلا أن يقرأ، فعلا، عمله، هو الّذي يقول إنّه "واكب مشروعه"، بل ويدّعي تحصيل القدرة على نقده فيما هو يعيث فيه ويفقّره ويقدّمه "للمجتهدين" مختلطا مشوّها.  ومن سوء حظّ صاحب هذه السّفسطة الشّنيعة أنّ كلّ ما أورده هنا يفضح ادّعاءه قراءةَ أعمال الجابري واكتساب الأهلية لمناقشتها ونقدها، لأنّ الفيلسوف وضع في كتابه الأوّل من "نقد العقل" الفكرَ العلمي في الموقع الّذي يراه مناسبا، فقال، بوضوح، إنّه يقع في "النّظام البرهاني"؛ وميّز في "الممارسة العلمية" بين نوعين: «ممارسة نظرية تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية وتتحرك بتوجيه منها، وممارسة علمية ونظرية تتحرك، بهذه الدرجة أو تلك من الحرية، خارجها.»[x] وأوضح أنّ الرّياضيّات والطّبيعيّات عند الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد تشكّل النّوع الأوّل، وقد ارتبطت بمنظومة أرسطو الّتي  اكتملت وانغلقت مع صاحبها، وصار العلم في تلك المنظومة -الّتي تحوّلت إلى نظريّة عامّة في الكون والإنسان والله- مجرّد عنصر تتحكّم فيه تلك المنظومة الّتي "حدّدت له وظيفته إلى الأبد"؛ وتحدّث، أيضا، عن النّوع الثّاني فقال عنه إنّه يقع خارج تلك المنظومة، أو على الأقل لا يخضع "لهيمنتها كمنظومة منغلقة"، وفي إطاره  أثمر الاجتهاد العلميّ الحقّ أعمالا على "درجة كبيرة من النضج والتقدم". ماذا يبقى، إذن، من تشعيب "البرهان" إلى "صميم" و"شبيه"؟ يبقى هذا العيْث في "النظام المعرفي البرهاني" بإسقاط "النظام المعرفي" والإبقاء على كلمة "البرهان"- وقد رأيناه يفعل نفس الشّيء مع تركيب "نظام الخطاب" في كتابه "البلاغة العربية أصولها وامتداداتها"، فيسقط كلمة "نظام" ويدّعي أنّ الجابري ساوى بين "الخطاب" عند الباقلاني  و"النظم" عند الجرجاني[xi]- ويبقى، أيضا، هذا التّخليط الّذي وقع فيه نتيجة نظره بـ"تكتّم"، ودون تحقيق، إلى نقد فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان للجابري، وانتهاضه للدّفاع عن البيان وتوجيه صاحب "نقد العقل العربي" إلى الطّريق السّالكة للعودة والانخراط في سلك المنظّرين لأخلاق الطّاعة وبلاغة "العادة القديمة" الّتي تتأمّل كلّ جديد وتحكم عليه بمقاييس "الأعراب الخلّص الأقحاح"، ممن لا تبلى عندهم فصاحة "وابْن اللَّبونِ"[xii]!

2. مجال البحث في العقل السّياسي والعقل الأخلاقي هو "البيان":

   يقول العمري: «إذا كانت هذه هي الدرجات الممكنة لترتيب العقول العربية معياريًّا فيبقى السؤال: إلى أي من هذه العقول ينتمي العقل السياسي والعقل الأخلاقي؟ وكيف يعتبران عقلين ويعطفان في الوقت نفسه على مكونات العقل البياني؟ مع الإشارة إلى أن مقايضة العقل بالفكر لا تحل المشكل؟

   الواقع أن الجابري يقدم كثيرا من المبادئ والتوضيحات التي تجعل ما تناوله في السياسة والأخلاق وجهين لعملة واحدة. فالموضوعان ينتميان إلى البحث في القيم، سواء قدمت في إطار التاريخ أو في إطار التصنيف والترتيب. وما دام ترتيب القيم هو مجال الاختلاف الذي لا مناص من حله بالحوار، وضمن بلاغة الحوار، فهذا المبحث أجدر أن يكون ضمن محور البيان، أي في مجال التقاطع بين البلاغة والمنطق. ففي هذا المجال بنى بيرلمان إمبراطورية «البلاغة الجديدة»، أو الخطابية الجديدة مستلهما خطابية أرسطو..

   كانت البلاغة الجديدة في بعدها التداولي أنسب لاستيعاب الاختيار الذي سار فيه الجابري، أي عقلنة الخطاب العربي من خلال نقد التراث الذي يطل بقرونه بعد كل نكبة، محاولا ابتلاع الحاضر. ولو سلك هذه الطريق التي سار فيها بيرلمان ومناطقة القيم، في أجواء الحرب العالميتين، لأمكنه استيعاب أرسطو في بعديه البرهاني والحجاجي التداولي، بل والشعري أيضا، ولما كان في حاجة إلى الهجوم العنيف على بلاغة ابن المقفع والكتاب المترسلين الذين اتهمهم الجابري بتمرير أخلاق الطاعة عبر بلاغة الترسل، والحال أن البيئة العربية لم تكن في عصر ابن المقفع في حاجة إلى من يستورد لها قيم الطاعة، بل ما وقع هو أن ابن المقفع طوق مطلب الطاعة بقيود لا مزيد عليها، جارا عليه نقمة عصره وعرضه لأبشع مصير»[xiii]

2. 1. تغليط وتعالم:

  قبل أن نناقش الدّعوى المحوريّة في هذه الفقرة، نقف عند ما يمهّد به العمري للإيهام بمصداقيّة ما يقترحه بديلا لما قام به الفيلسوف. فهو يسأل عن النّظام المعرفي الّذي ينتمي إليها "العقلان" السياسي والأخلاقي، ويترك السّؤال معلّقا، ويرْدِفه بسؤال ثانٍ عن حديث الجابري عن العقلين، السّياسي والأخلاقي، وكيف جاز له عطفهما على "مكوّنات العقل البياني" دون أن يجد تنافيا بين سؤاليه! ويشير، بعدها، إلى أن "مقايضة" العقل بالفكر لا تحلّ "المشكل"! ثم يبتدئ الفقرة الّتي تلي ذلك بعبارة: "الواقع أن الجابري يقدم كثيرا من المبادئ والتوضيحات التي تجعل ما تناوله.."، وهي عبارة تجعل القارئ يتوقّع أنّه يقدّم تفسيرا أو تحليلا أو تأويلا لما أورده من التباس علاقة العقل العملي (السّياسي والأخلاقي) بنظم الجابري المعرفيّة، أو بتصويبِ ربطِه هو للعقل العملي حصريّا بالنّظام البياني، أو ببيانٍ لما سمّاه بـ "مقايضة العقل بالفكر" الّتي لم تسعف الفيلسوف ولم تمكّنه من حلّ "المشكل". لكنّ العمري لا يقوم بشيء من ذلك، بل يتّخذ عبارة "والواقع أنّ.." زانَةً يقفز بها إلى الحديث عن أمرٍ آخر!، عن "توضيحات" الجابري لترابط "ما تناوله" في "السّياسة والأخلاق". وهذا كلّه تخليطٌ ولّدته الرّغبة في تضعيف تصنيف الفيلسوف بتشعيب "النظام البرهاني" كما رأينا في الفقرة السّابقة، وبالتّساؤل عن علاقة العقل السّياسي والأخلاقي بـ"العقول العربيّة"! وبالتّقويل المتمثّل في زعم "ربط الجابري للعقلين السّياسي والأخلاقي حصريّا بـ" مكونات العقل البياني "، ثم بـ"الإشارة"، بتعالم فجّ، إلى أنّ "مقايضة العقل بالفكر لا يحل المشكل". 

   فأمّا تشعيب "النّظام المعرفي البرهاني"، فقد بينّا تهافته في الفقرة السّابقة؛ وأمّا الباقي، فنضبط مصطلحه، ونخلّصه من التّقويل وإرادة التّغليط في توضيحين اثنين:

الأول: إنّ الفيلسوف يتحدّث عن "العقل العربي" ويقول إنّه يقصد به آليات الإنتاج النّظري في مجال الثّقافة العربيّة، أي أنّه يستعمله للدّلالة على الفكر باعتباره مبادئ ومفاهيم وقواعد وآليّات تمكّن المنتسبين إلى ذلك المجال من اكتساب المعرفة وإنتاجها. ويسمّي هذا النوع من النّسق المكَّون بـ"النظام المعرفي". والنّظام المعرفيّ هو عقل نظريّ مجرّد؛ والفيلسوف لا يستعمل "العقل العربي" بصيغة الإفراد إلا بالنّظر إلى البنية المحصَّلة الاعتباريّة لديناميّة صراع وتداخل نظمه المكوّنة الثلاثة: النّظام البياني والعرفاني والبرهاني[xiv]. ويرتبط بهذا العقل النّظري متعدّد المكوّنات، في كتابات الفيلسوف، عقلٌ عملي، سياسي وأخلاقي؛ وهو إنْ كان واحدا بصفة اعتباريّة، ويمكن الحديث عنه بصيغة المفرد بالنّظر إلى التّقليد الفلسفي، وبالنّظر لاندراج "السّياسي" و"الأخلاقي"  في حقل الإرادة، فإنّ الجابري يتناول العقل السّياسي والعقل الأخلاقي في كتابين اثنين، ويبرّر التقسيم (1) بتوقّي السّقوط في التّكرار، ذلك أنّ مفاهيم العقل النّظري والعقل السّياسي هي نفسها مفاهيم اجتماعيّة إنسانيّة محمّلة بأحكام القيمة، وقد أبرز بعض جوانبها في أجزاء "نقد العقل العربي" الثلّاثة السّابقة؛ (2) وبالبحث عن تصنيف يلائم موضوع "العقل الأخلاقي" في مجال الثّقافة العربيّة ويستوعب مفاصله وتفاصيله[xv]. وهو ما يعني أنّه تناول جوانب من العقل العملي في العقل النّظري والعكس[xvi]؛ وجوانب من العقل السّياسي في العقل الأخلاقي، والعكس؛ وذلك، لتداخل مكوّنات كلّ ذلك وتفاعلها. وأمّا الفصل، فللتّفاوت، ولمقاصد منهجيّة وإجرائيّة بحسب ما أوضح. وقد كان من المتاح، مع ذلك، أن يتناول العقل العملي في إطار تصنيفه الثّلاثي للعقل النّظري، وكان من المتاح، أيضا، أن يتناول العقل الأخلاقي في الإطار التّصنيفي للعقل النّظري أو في الإطار الّذي اعتمده في العقل السّياسي؛ إلّا أنّ  تيقّظه جعله لا يقع في التّبسيط الّذي يطمس التّفاوت ويلغي الفروق.[xvii] بهذا يتّضح أنّ سؤاليْ العمري المتنافيين يكشفان المسافة التي تفصله عن عمل الفيلسوف،  وهو فيلسوف مدقّق لا يتخبّط مثل من يريد منه أن يحشر "عوالم القيم"، هكذا بصيغة الجمع، في الثّقافة العربيّة في نظام معرفيّ واحد، أي في مكوّن واحد من مكوّنات العقل النّظري.

الثاني: يعلّق العمري على سؤاليه المتنافيين العابثين بتصنيفات الجابري الطّامسين لتبريراته بالقول: "مع الإشارة إلى أن مقايضة العقل بالفكر لا تحل المشكل؟" و"المقايضة" من الكلمات الّتي تتكرّر في كلامه، بمناسبة وبدونها؛ والمشكل العويص الّذي لا حلّ له فعلاً، هو بالضّبط، أن يصرّ العمري على الإتيان بشيء من عنده وينسبه إلى الفيلسوف، ثم يؤاخذه عليه[xviii]. أي مقايضة؟ وأي مشكل؟ أمّا الفيلسوف فقد قدّم التّوضيحات الّتي تجعل كلامه متّسقا سواء استعمل كلمة العقل أو كلمة الفكر منذ مقدّمة الجزء الأوّل من كتاب "نقد العقل العربي". وهو يستعمل العقل للإشعار بالانتقال من المقاربة الإيديولوجيّة في "نحن والتّراث" إلى اعتماد المقاربة الابستيمولوجية في "نقد العقل العربي"، وهي المقاربة الّتي تسمح باستعمال الفكر، لا بمعناه في الاستعمال الشّائع باعتباره محتويات ومضامين، بل باعتباره مجموع الآليّات الّتي ينظر من خلالها الأفراد في الثّقافة العربيّة إلى العالم وبها يكتسبون المعرفة. والفكر بهذا المعنى هو نفسه ما يصطلح عليه بـ"العقل". يقول، في تحديده الأوّلي، إنّ "العقل العربي" «هو الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثّقافة العربيّة بالذّات، الثّقافة الّتي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبليّة كما تحمل وتعكس وتعبّر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدّمهم وأسباب تخلّفهم الرّاهن»[xix] ويضيف: «إنّ ما نقصده بـ«العقل العربي» هو العقل المكوَّن، أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدّمها الثّقافة العربيّة للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو لنقل: تفرضها عليهم كنظام معرفي. أمّا العقل المكوِّن فسيكون هو تلك الخاصية التي تميّز الإنسان عن الحيوان أي «القوة الناطقة» باصطلاح القدماء»[xx]، وجديرٌ بالذّكر أنّه يشدّد، صَدَدَ ذلك، على أنّ من الواجب ألّا «نغفل علاقة التأثير والتأثر القائمة أبدا بينهما»[xxi]. وأمّا العقل السّياسي فهو «عقلٌ» لأن محدّدات الفعل السّياسي وتجلّياته تخضع جميعا لمنطق داخلي يحكمها وينظّم العلاقات بينها، منطق قوامه «مبادئ» وآليّات قابلة للوصف والتّحليل. وهو «سياسي» لأنّ وظيفته ليست إنتاج المعرفة، بل ممارسة السّلطة، سلطة الحكم، أو بيان كيفية ممارستها»[xxii]؛ وللعقل الأخلاقي، من جهته، أبعادٌ وجوانب تربطه ربطا أكيدا بالعقل السّياسي والعقل النّظري، وطبيعةٌ تجعله يتفاوت معهما أيضا، كما أنّ له محدّدات قابة للرّصد والوصف، وهو، بالتّحقيق، المحصّلة الاعتباريّة لديناميّة صراع وتداخل «نظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية»[xxiii]

2. 2. توضيحات الجابري واستنتاج العمري!:

   أشرنا في الفقرة السّابقة، بشكل عابر، إلى طريقةٍ في الرّبط بين الأقوال خاصّة بالعمري، فهو يستعمل العبارة الدّالة على أنّ مدار كلامه السّابق ما زال هو نفسه في كلامه الموالي، في الوقت الّذي يكون فيه قد انتقل إلى موضوع آخر دون أن يعي الهوّة الفاصلة بين ما كان فيه وما انتقل إليه. وفي الكلام الّذي أوردناه له أعلاه يضع عبارته "والواقع أنّ الجابري يقدم كثيرا من المبادئ والتوضيحات.." ليقفز عبرها من مجال التّساؤل عن العلاقة الّتي يقيمها الجابري بين العقل النّظري والعقل العملي إلى مجال آخر، هو "إفادة" القارئ أنّ الجابري قدّم في "الواقع" توضيحات كثيرة عن ترابط شقّي العقل العملي. والرّبط لا يستقيم على هذا المنوال، إلّا إذا أشار مثلا إلى أنّ الفيلسوف قدّم توضيحات عن علاقة السّياسي بالأخلاقي ولم يفعل الشّيء نفسَه بخصوص علاقة العقل العملي ككلّ بالعقل النّظري، أو ما يمكن أن يقوم مقام هذا لتبرير الانتقال. هذا القفز قد ينتج عن السهو؛ ولكن جعل الجابري، رغما عنه، يعطف العقلين العمليّين على "العقل البياني" وإلصاق كلمة "مكونات"، هكذا بصيغة الجمع، بـ"العقل البياني"، يؤكّد أنّ ذلك من الإجراءات المريبة الّتي تطّرد في مقال العمري.

   وإذا كان العمري قد زيّف التّصور الّذي قدّمه الجابري للعلاقة بين العقل النّظري والعقل العملي في حقل الثّقافة العربيّة بالإخفاء والتّزوير، فإنّه، بالمقابل، يسارع إلى التّأكيد على أنّ هذا الفيلسوف قدّم "مبادئ وتوضيحات كثيرة تجعل ما تناوله في السّياسة والأخلاق وجهين لعملة واحدة! ونحن لا نجد لهذا الأمر تفسيرا إلّا الرّغبة الملحّة في فرض استعمال مفتاح واحد لفتح جميع الأبواب: فتشعيب النّظام البرهاني إلى صميم وشبيه، ووضعِ الصّميم في خارجٍ لم يقل فيه الجابري كلمة بعد، والحكم بكون كلامه عن البرهان هو خطأ في أساسه، وإسقاط التّوضيحات الّتي قدّمها هذا الفيلسوف لبناء تصوّره للعلاقة بين العقل النّظري والعقل العملي، وفرض عطفه للعقلين العمليين السّياسي والأخلاقي على "مكونات العقل البياني"، والانتقال من الحديث عن تصوّر الجابري للعلاقة بين العقل النّظري والعقل العملي إلى الحديث عن توضيحات الجابري للعلاقة بين شقي العقل العملي، كلّ ذلك موجّه لجعل الجابري "يوضح" أنّ "السياسة والأخلاق" وجهان للعملة الواحدة، وهو توضيح "كاف" في ظنّ العمري ليبني عليه دفاعه عن "مفتاحه الوحيد"!

   ومع كلّ هذه "الحيل" فإنّ الفيلسوف يخرج سالما؛ والجهد الذي بدله العمري ليثبت أنّ الأجدر به ألّا يستعمل "البرهان" وأن يكتفي "بالنّظام البرهاني الشبيه" أي بالبيان، وأن يعتمد هذا البيان، من باب أولى، عوض الفلسفة إطارا للبحث في "العقل السياسي والعقل الأخلاقي" ينقض دعوى تحوّله نحو المجال البلاغي بمجرّد الخروج من الجزأين الأوّل والثّاني من "نقد العقل العربي"!

2. 3. مجال القيم من اختصاص "البيان":

   وهل اكتفى الجابري بـ"تقديم الكثير من المبادئ والتوضيحات التي تجعل ما تناوله في السّياسة والأخلاق وجهين لعملة واحدة"؟ لا، بالتّأكيد. لقد قدّم توضيحات تتعلّق بكون المفاهيم التي وظّفها في تصنيفاته في "العقل النّظري"، محمّلة هي الأخرى، شأنها شأن المفاهيم التّصنيفية المستعملة في "العقل السّياسي"، بأحكام القيمة، بل قال إنّها "كثيرا ما تتحول هي نفسها إلى قيم في ذاتها"[xxiv]. ومن شأن هذا أن يعزّز لدى العمري، لو قرأه!، جدوى تشعيبه "للنّظام البرهاني"، واعتقاده أنّ الأجدر بالفيلسوف أن يعالج موضوع "تكوين" و"بنية" العقل العربي في إطار "البرهاني الشّبيه"! لكن، ومن سوء حظّه، أنّ رغبته في "جعل" البيان، أي المنظور اللّفظي، مفتاحا وحيدا كافيا لمعالجة كل المواضيع رغبةٌ لا تسكن، بهذا الإلحاح، إلا المتطرّفين المحتاجين للمداواة[xxv]؛ لذلك، فإنّ مساعيه، غير الحميدة، في اتّجاه التّمكين لاستمرار النّظر إلى كلّ العلوم وإلى العالم من المنظور اللّفظي الضيّق هي مساع لا تقنع غير "مستمَعه"[xxvi] الخاص. وإلّا فإنّ القارئ، خارج دائرة ذلك المستمَع، لا يجد أيّ مبرّر للانتقال من توضيح الجابري لكون البحث في السّياسة والأخلاق هو، في الأساس، بحث في القيم، والقيم هي مجال الاختلاف الّذي يدبّر بالتّفاوض والحوار، إلى هذا الشّرح "العمريّ" العجيب: "الاختلاف يستوجب الحوار أي البلاغة"؛ ولا يجد، ثانيا، ما يسوّغ له أن يبني على ذلك ادّعاء عدم ملاءمة منظور الفيلسوف لموضوعه، والزّعم بأنّ الواجب كان يقتضي منه أن يتناوله في إطار "البيان"!

   الاختلاف في شأن القيم يدبّر في الجماعات والمجتمعات وبينها بالتّفاوض والحوار، ويدبّر بغير ذلك ممّا لا يشغلنا هنا. فتباين وجهات النّظر يستتبع أن يكون المختلفون في السّياقات التّواصلية المتنوّعة قادرين على استعمال اللغة في سعيهم إلى التّوافق استعمالات تَطْبَع، بمقاصدها المتفاوتة، بنيات الخطابات. فيترتّب على ذلك تنوّعٌ وتفاوت بين خِطابات الفلاسفة والخطباء والمحامين.. وتنوّعٌ وتفاوت في خِطابات كل فئة من هؤلاء. وهو ما يمكن، بل يجب أن يكون موضوعا للبحث في إطار البلاغة، ولا إشكال في هذا، ولا يعنينا هنا. فبهذا المعنى نقول إنّ الجابري فيلسوف وفّر لخطابه من المقوّمات ما يجعل دراسته في إطار البلاغة أمرا مطلوبا ونافعا. لكن هذا، وغيره، لا  ينبغي أن يجرّنا للوقوع في آفتين عظيمتين: أن نشترط في النّاس، بمختلف فئاتهم ومشاربهم وتخصّصاتهم أن يكونوا "خطباء" حتّى يمكنهم أن يناقشوا ويتكلّموا في شؤون القيم؛ وأن نقدِّم ما نظنّ أنّنا نحْسِنه من "علم"، بلاغة كان أو غيره، وندّعي أنّه "الأجدر" و"الأنسب" لتناول الخطابات التي تتولّد في سياقات التّحاور والبحث في شأن القيم؛ ويزداد تعاظم  هذه الآفة عندما نسعى لتأبيد سيادة "حِرْفةٍ كلاميّة" في مجال ثقافي "يلتهم فيها العقل نفسه[xxvii]"!

   وجرجرة بيرلمان إلى خَنْدق المنظور السّفسطائي المعادي للعقل بقصد إظهار الجابري-فيلسوف العقلانيّة في الثّقافة العربية- كأنه من متطرّفي "الوضعيّة المنطقيّة" لا يقْنع غير الضّيّقين الّذين يستمرون في "استنباط" كل ما يستجدّ عند الغير من خزّان نصوصهم "البليغة" التي تكبّلهم وتعتقل من خلالهم الواقع والتّاريخ، وتحشر كل تعقيداتهما في حيّزها الضيّق. فبيرلمان فيلسوف عقلاني أعاد الاعتبار للخطابيّة والجدل، وانتقد البداهة التي عمّمتها البورجوازيّة سواء كانت بداهة بروتستانتيّة أو ديكارتيّة أو تجريبيّة[xxviii]، وبيّن ضيق العقلانيّة الوضعيّة المنطقيّة والتجريبيّة، وأظهر النّفع الّذي يمكن تحصيله من خلال توسيع المنطق واستعمال العقل في المجالات غير القابلة للحساب والصّورنة[xxix]، وسعى لسلوك طريق مباين لكلّ ذلك والخروج عن دائرة التيّارات الّتي تختزل مشكلات العقل العملي وتعتبرها مشاكل معرفيّة أو تصنّفها في إطار ما لا ينتمي لمجال العقل أصلا؛ وكان، بالإضافة إلى ذلك وغيره، منحازا ضدّ الاستعمال الزّخرفي والسّفسطائي المحترف لتقنيّات الخطابة والجدل من قبل المتملّقين المتلاعبين من شتّى الأصناف[xxx].

   والمهتمّون المتثبّتون يعرفون ما يضعون جنب صنيع بيرلمان، أهو صنيع الجابري أم هذه السّفسطة الّتي يقول صاحبها إنّ الجابري تحوّل إلى البلاغة مع الجزء الثّالث من "نقد العقل العربي" الذي خصّصه للشّقّ الأوّل من "العقل العملي(السّياسي) " ويقول في نفس الوقت إنّه كان أجدر بالجابري أن يتناول موضوع "العقل العملي (السّياسي –الأخلاقي)" في إطار العلم الأنسب له وهو، وفق زعمه، البيان، دون أن يبرّر تنافي القولين، ودون أن يراعي للفيلسوف موضوعه المتمثّل في "العقل العربي"، السّفسطة الّتي يدّعي صاحبها الدّفاع عن "بلاغة جديدة"، هي عند الغير، هنالك في الغرب، ويطابق بينها وبين البيان عند الإعجازيّين والمناظرة عند الفقهاء وعلماء الكلام، من غير أن يحصّل أدنى شروط المنهجيّة العلميّة الّتي يتوسّل بها بعض من يقول بقولهم في ذلك من أقرانه السّاعين إلى الاستفادة من نظريّات الحجاج المعاصرة لتجديد "علم الكلام" و "فنّ المناظرة"، أولئك الأقران الذين يحتاجون، هم أنفسهم، إلى أكثر من "جعل" أدوات المنطق الحجاجي في "الأصول" و"علم الكلام" غير "مقيدة بالمواد الدينية والمضامين العقدية[xxxi]"، السّفسطة التي "تقرأ" ماضيها في المستقبل بعبارة مختصرة للجابري. أمّا الجابري فـ"لم يفقد المناعة النّظرية والمنهجيّة[xxxii]"، فقد استعان بما يتيحه العصر من وسائل معرفيّة، مناهج ومفاهيمَ، لا ليفرضها على الموضوع ويخضعه لقوالبها، بل لتطويعها هي، وتشغيل قدرتها الإجرائيّة حتّى توديَ وظيفتها العلميّة[xxxiii]". فإذا اكتفينا، للمقارنة، بما أشرنا إليه من مواقف بيرلمان، فإنّ الجابري: أرجع الدّور الحاسم في استقالة العقل اليوناني نفسه، موافقا فيستوجيير، إلى انتهائه، بعد أرسطو، إلى نوع من العمليّات العقليّة البرهانيّة الصّرف الّتي تجد أساسها في الصّدور عن طبقة تحتقر المعرفة الحسّيّة وتترفّع عن التّجربة، وردّ استقالة العقل العربي إلى غياب الطّبيعة-بالمعنى الواسع- الّتي يمكن أن ترتبط بها التّجربة عن أفق هذا العقل أصلا، لارتباط نشأته وتكوّنه بالنّصوص وتمحوره البعدي عليها تأمّلا واستنباطا، وأوضح ما تحمله الإشادة ببداهة "العرب" من سلب لقدرتهم على "التعقّل[xxxiv]، وانتقد البداهة الدينيّة والبداهة الديكارتيّة، وأكّد أنّه لا ينطلق من موقف وضعي[xxxv]، ولم ينسق مع "موجة" تمجيد "شَكْلَنة" المنطق في مجال الثقافة العربيّة القديمة عندما «قرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية»[xxxvi]، واعتبر ذلك نكوصا بالنّظر لكيفيّة توظيفه والمقصد منه، وانتقد علم الكلام والمناظرة لطبيعتهما "التّشاجرية" السّفسطائية المبتناة على حفظ عقائد دينيّة وحراستها من أهل البدع بالأدلّة والبراهين، ووقف ضدّ اللّجوء إلى "طرقٍ" للمعرفة غير طرق العقل، وأعاد النّظر في مفهوم العقل نفسه، وعمل على تشخيص أسباب تخشّبه وانتفاء ديناميّته؛ فكانت فلسفتة، لذلك ولغيره، فلسفة "نظرية وعملية"، استعمل فيها أدوات ومفاهيم ومناهج مستمدة من آفاق علميّة مختلفة، بما فيها الآفاق البلاغيّة؛ لكنّه فعل ذلك لا باعتباره محلّلا للخطاب أو فيلسوفا للّغة، بل بصفته فيلسوفا معنيّا بفهم "العقل العربي" وتتبّع تكوينه وتحليل بنيته. والفرق بين فيلسوف وآخر يرجع بعد ذلك، إذا اكتفينا بالأساسي، إلى طبيعة الفلسفة نفسها، وإلى الموضوع الذي ينشغل به كل منهما، وبيرلمان فيلسوف محور اهتمامه على توسيع المنطق بالتّركيز على تقنيات الحجاج في الخطاب الطبيعي.

   لكلّ ذلك، و"بالنّظر إلى موقف بيرلمان من الاستعمال الزّخرفي والسّفسطائي المحترف لتقنيّات الخطابة والجدل من قبل المتملّقين المتلاعبين من شتّى الأصناف" خاصّة، يفقد كلام العمري الّذي يستحضر فيه اسم بيرلمان ليتّخذه "قاعدة خلفيّة" لصد "هجوم الجابري العنيف" على "بلاغة" ابن المقفع والكتّاب المترسّلين كلّ مشروعيّة. ومع فقدان المشروعيّة تتكشف ثقوب هذا النّوع من الخطاب الّذي تحكمه أهواء تفضح نفسها من خلال ادّعاءات من قبيل "حاجة الجابري للهجوم العنيف على بلاغة ابن المقفع والكتاب المترسلين"، واتهامه لهم بـ"تمرير أخلاق الطاعة"، وعدم استيعابه "لأرسطو في بعديه البرهاني والحجاجي التداولي، بل والشعري"، وذلك كلّه، لأنّه لم يسلك مسلك من عالجوا موضوع "القيم" "في أجواء الحرب العالميتين"! ونحن نحوّل مناقشة هذا "الرّجم" الانتقامي العشوائي إلى أرض البلاغة، في قابل؛ ونكتفي، في سياقنا هذا، بأن نرتّب على مؤاخذة العمري للفيلسوف "على عدم سلوكه طريق بيرلمان ومناطقة القيم في معالجة موضوعه"، ثلاث نتائج أساسيّة: (1) أنّ هذه "المؤاخذة" تتنافى مع ادعائه تحوّل الجابري في مناقشة "السّياسة والأخلاق" من الفلسفة إلى البلاغة؛ (2) وأنّ مناقشة العمري لعمل الجابري تتمّ بدون قراءة، وبدون فهم، ومن خلال "إطار مرجعي" خارجي تمّت فبركته بتجميع بقايا أراء متنافرة ومقتطعة من سياقات بالغة التّباين؛ (3) وأنّ السّلوك البحثي للعمري يعتمد حيلا تفرض القول بعدم نزاهة صاحبه، فموضوع الجابري، مثلا، في كتابيه الثّاني والثّالث من الرباعيّة الأولى هو "العقل السياسي" و"العقل الأخلاقي"، وليس "السّياسة" و"الأخلاق" وشتّان بين الأمرين. لكلّ ما سبق نقول، باختصار، إنّ استراتيجيّة العمري موجّهة إلى إفراغ عمل الجابري من المصداقيّة ومحو تبريراته العلميّة، بقصد إقناع "الأتباع" بكون صاحب "نقد العقل العربي" لم يستوعب حتى أرسطو في شموليته!

3. تردد الجابري وحسم العمري في نوع العلاقة بين رباعية "النقد" ورباعية "التفسبر":

   يقول العمري: «ربط الجابري مساره بالدراسات الاستطلاعية الأولى في التراث العربي التي جمعها في كتاب نحن والتراث، وترك للدارسين وضع باقي مؤلفاته في الموقع الملائم حول هذا الهيكل..

   رسم الجابري مساره على الصفة المذكورة في مقدمة كتابه مدخل إلى القرآن الكريم، رابطا الرباعية الأولى «بالتحولات التي أعقبت هزيمة 1967»، والثانية «بالتحولات التي انطلقت مع أحداث أيلول/سبتمبر 2001». وفي الحالتين طرحت أسئلة تقتضي مراجعة علاقتنا بالتراث من أجل الواقع.

   يمكن لكل دارس أن يستنتج من هذا التصور للمسار ما يبدو له، فحتى الباحث نفسه بقي متردداً في حسم العلاقة بين الإنجازين. أما دارس البلاغة فلن يجد صعوبة في رصد الانتقال التدريجي للجابري من السؤال الفلسفي إلى الممارسة البلاغية، أي الانتقال من استعمال البلاغة كأداة تبليغية بيداغوجية لتقديم أسئلة فلسفية (كما في الرباعية الأولى) إلى ممارسة التحليل البلاغي، أو البلاغة التطبيقية في 90 في المئة من الرباعية الثانية[xxxvii]»

   تبايِن الفلسفة العلومَ من جهات عدّة، منها اتّساع مجالها للتّفكير في أيّ موضوع وفي أيّ مسألة، ومنها عدم انطلاق الفيلسوف من أيّ سنَن مرعيّة أو قواعد مقرّرة. ما يضمن قوّة الطّرح وصرامة المنهج الّذي يقترحه كل مشتغل في هذا المجال يعود لا إلى علم المنطق الذي استقلّ عن الفلسفة شأن كل العلوم، بل إلى أنّ كلّ مسألة إنّما تطرح في إطار التّاريخ، فللوعي الكوني تاريخ تعلِّمنا ظاهراتية هيجل. واستحضار السّياقات التاريخيّة الّتي طرحت فيها المسألة والإجابات التي قدِّمت بخصوصها، لا يتمّ من أجل حفظ تلك الإجابات، بل لمساءلتها والتحقيق فيها بقصد اختيار[xxxviii] أو تقديم إجابات راجحة ومحيّنة على أساسها، إجابات ترتبط بالوقت الّذي طرحت فيه المسألة من جديد. وكل مسألة تطْرَح بهذا الشّكل؛ وتطرح، طبعا، في مجال العقل بتعبير الجابري، أي في مجال تتميّز فيه المعالجة بالاعتماد على قدرات الفيلسوف الطّبيعيّة، وهو ما يفترض استبعاد الطّرق اللّاعقلانية والتّناولات الكلاميّة والسّفسطائية الانتفاعيّة، ويفترض، أيضا، الجدّيّة في السّعي إلى الحدّ من تأثير القبليّات، أو على الأقلّ وضعها في الاعتبار، ومحاولة تقدير حجم التّأثير الّذي يمكن أن يكون لها في الإجابة. بهذا يكتسب الطّرح الفلسفي مصداقيّته، وبه تتوافر له الصّرامة والحواريّة في آن. لذلك وجب التّنبيه إلى سعي أشكال شتّى من السّفسطة للاستئثار "بالحواريّة" و"الحجاج" وتحفيظهما وجعلهما ملكيّة خاصّة، واستغلال ذلك لاحتراف الاسترزاق والدّفاع عن "الجثث". هذا ومبادئ "المنطق الأرسطي" الأكثر صوريّة المتمثّلة في مبدأ الهوّيّة والثّالث المرفوع منغرسة، هي نفسها، في الحواريّة والحجاج، وهو ما أوضحه غير واحد من الثّقات.

   لكنّ ما سبق لا ينبغي أن يفْهَم منه أنّ من الواجب على الفيلسوف أن يتكلّم في كلّ شيء[xxxix]، وأن يقدّم، بالضّرورة، الإجابة عن الأسئلة الّتي يطرحها ويتصدّى للبحث والتّفكير فيها. لذلك، فإنّ تحرّز الفيلسوف، وحذره حتّى في مسائل تتعلّق بعمله هو أمر مفهوم، يدلّ على التّيقّظ وتجنّب القطع. أمّا في "العلم" فإنّ "الحسم" مطلوبٌ، وعدم تحقيقه يستلزم إعادة المحاولة بتغيير الأدوات أو تغيير الشّروط أو تغيير الوجهة. ورغم أنّ العلوم الإنسانيّة واللّسانيّة تختلف عن العلوم الدّقيقة اختلافات معتبرة[xl]، فإنّ البحث فيها ينبغي، مع ذلك، أن يتمّ في إطارٍ نظريّ ومنهجي، وأن تبرّر الإجابات التي تقدّم في ذلك الإطار تبريرا علميّا كافيا يظهر أنّها، فعلا، صحيحة وراجحة، وأن تصاغ، فوق ذلك، صياغة واضحة وقابلة للفهم.

   والعمري "ينطق باسم البلاغة" باعتبارها علما للخطاب، أو هكذا يقول؛ فيجوز له السّعي إلى "الحسم" في ما لم "يحسم" فيه الجابري في علاقة رباعية "النقد" برباعية "التّفسير"، بل يجوز له أن يخالف الجابري في الّذي قاله عن ذلك، خاصّة، أنّ زاوية النّظر مختلفة، ثمّ إنّ هذا دارس فاحص أو هكذا يفترض، وذاك موضوع للمدارسة والفحص.

   لكن ما الّذي فعله العمري بالضّبط في هذا الذي اقتطفناه له في بداية هذه الفقرة؟ يَفْصِل كلام الجابري عن موضوعه ومداره، وينقله إلى موضوع ومدار آخر، فيقول إنّ الفيلسوف تردّد ولم يحسم في مسألة حسم فيها ولم يتردّد. إنّ العمري يجعل الجابري يقرّ له بما ينسبه إليه وإن أتى على عمله من القواعد، وقد رأيناه يفعل ذلك قبلا عندما شعّب مفهوم "النظام البرهاني" وقال إنّ "النظام البرهاني الصميم" هو الّذي كان الجابري "ربما يفكّر في أن يخصّصه للفكر العلمي"! واستشهد بقولٍ للجابري في المقدمة نفسها التي يستدل بها هنا أيضا، ليثبت تردّد الجابري في المجال الّذي يضع فيه عمله في موضوع "القرآن"، في الفلسفة أم في البلاغة؟  والواقع أنّ كلام الجابري في السّياق الّذي يحيل إليه العمري لا يتعلّق، البتّة، بعلاقة الفلسفة والبلاغة، ولا حتّى بالمنهج.

   فما هو مجال تردّد الجابري؟

   في بداية تقديم كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم"[xli]، يتحدّث الجابري عن "موقع" هذا الكتاب الجديد بالنّسبة إلى رباعية "نقد العقل العربي"، فيوضّح أنّه كتاب يتحرّك، مثل تلك الرّباعية، في "رحاب التّراث العربي الإسلامي". لكنّ هذا التّوضيح، غير كاف بالنّسبة له، فيصرّح بأنّه لا "يتبيّن بوضوح"، أين يضع ما يكتبه في موضوعه الجديد، أيعتبره «بمثابة تأسيس لما سبق»، أم «هو له أشبه بـ«ذيل وتكملة» أم إنّ الأمر يتعلّق بموضوع مختلف تماما». هذا هو حذر الفيلسوف، الّذي يلتزم النّزاهة فيمهّد بهذا الكلام ليؤكّد على أنّه إن كان يجد نفسه بعد الانتهاء من أجزاء "نقد العقل العربي" أقدر على تناول موضوع الكتاب الجديد، فإنّه لا يعتبر هذا الكتاب "تتويجا لسلسلة، لسبب بسيط أنه لم يخطر بباله يوما أنّه يتحرّك عبر حلقات سلسلة ما"، ثم يذكّر بما قاله سابقا عن مقالاته وكتبه التي توالدت في عالم الفلسفة عبر الزّمن ولم يحكمها تخطيط مسبق؛ فأثناء كتابة مقدمة مقالات "نحن والتراث" فاجأته فكرة تأليف "نقد العقل العربي"، وعند الانتهاء منه تبيّن له أنّ "من الضّروري أن يجعله في جزأين: التكوين والبنية" وما إن انتهى من خاتمته حتّى وجد أمامه موضوع "العقل السياسي" يستحثه ويستفزه"، وعند المراجعة الأخيرة للكتاب ««وقفت» الأخلاق أمام ناظريه». ثم ينتقل إلى بيان كيف تولّدت لديه فكرة التّأليف في "القرآن"، مشيرا إلى وقوع تقارب بين مقترحات بعض الأصدقاء الّذين تشكّل لديهم أفق توقعّ من خلال قراءاتهم له وبين ما كان يعتمل في ذاته ويخطر بباله، موضّحا أنّه كان يصرف تلك المقترحات بسبب انشغاله بموضوع "العقل الغربي" إلى أن كانت أحداث 2001 التي رجّحت مقترح "التأليف في القرآن". كلام الجابري عن هذا الحدث الّذي رجّح لديه اختيار التّأليف في القرآن، قاده إلى توضيح وجيز لجدليّة الثّقافي والسّياسي في مسيرته، وهو توضيح نعود إليه بعد حين، لاشتماله على "مضادات طبيعية" لادعاءات العمري. وعن كتاب الـ"مدخل" توالدت أجزاء الرّباعيّة الثّانية، يقول في القسم الأول من " فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول": «حكينا، بل كررنا حكاية توالد وتناسل الأجزاء الأربعة لكتابنا "نقد العقل العربي" منذ الإعلان عنه في "نحن والتراث"(1980) إلى صدور جزئه الأخير "العقل الأخلاقي العربي" (2001). وتشاء الأقدار أن يتكرر نفس التوالد والتناسل مع "المدخل إلى القرآن" نفسه!»[xlii]

   واضح، إذن، أنّ مدار حديث الجابري هو الكتابة عنده، تلك الكتابة الّتي انخرط فيها من دون أن يصدر عن تصوّر أو تخطيط مسبق. أمّا المجال الّذي أبدى فيه حذره وعدم تبيّنه لما هو الصّواب فيه فإنّما هو الموقع الّذي يمكن أن يشغله كتابه الجديد بالنسبة إلى رباعية "نقد العقل العربي". لكنّ العمري قرّر أن يجعل حذر الجابري تردّدا يتعلّق بمجال الاشتغال وبالمنهج. ونحن نؤكّد أنّ الفيلسوف قال في هذه المقدمة الّتي يستند إليها العمري، وفي مواقع أخرى كثيرة، أنّ كتاباته إنّما تتمّ في مجال الفلسفة، وأنّه يسير في تلك الكتابات وفق خطوات منهجيّة عامّة هي نفسها التي حدّد خطوطها الأساسيّة منذ كتابه "نحن والتراث".  ففي هذه المقدّمة يقول إنّه بدأ كتاباته بمقالات تنتمي لـ"ـعالم الفلسفة"، ويورد أنّه، عندما كان يراجع "العقل السياسي" المراجعة الأخيرة، وقفت الأخلاق أمامه منادية "أليست "الأخلاق" جزءا من السياسة في الفلسفة؟ ألم يكن "تدبير النفس" مرتبطا بـ"تدبير المدينة"؟ وفي مقدّمة القسم الأوّل من "فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، وهو الّذي قال العمري إنّه بلاغة تطبيقيّة، يقول «كان طرح السؤال حول "التعريف بالقرآن" ينطوي، كما قلنا، على نوع من التحدي لأمر واقع، وبالتالي كان يحتاج إلى نوع من المغامرة، أعني إلى الجرأة التي تفرضها الفلسفة على من ينتسب إلى حقلها، بوصفها "البحث عن الحقيقة[xliii] ويضيف أنّ السّؤال الّذي يستعيده في "التفسير"، باعتباره "ارتفاعا" بسؤال "المدخل/التعريف"، لا ينطوي في ذاته على أيّة مغامرة، لأنّ "فهم القرآن" «مهمة مطروحة في كل وقت ومطلوبة في كل زمان»[xliv]، لكن «المغامرة الكبرى»[xlv] هي في الإجابة عن ذلك السؤال «على ضوء معطيات العصر الذي نعيش فيه»[xlvi]، إجابة تجتهد من أجل "فهم الكتاب الحكيم" بالعقل، وتحاول خلق المسافة مع "انفجار القرآن الكريم" في القلب، من "فراغ الذهن".

   وبخصوص المنهج، نكتفي ببعض ما قاله الجابري في رباعيّته في "القرآن"، الّتي "يحكي" العمري أنّ الجابري انتقل فيها إلى «ممارسة التحليل البلاغي، أو البلاغة التطبيقية في 90 في المئة من الرباعية الثانية»، وقد نعود، إذا ما أسعف الوقت، إلى هذا الكلام "المدعّم" بهذه النّسبة المئوية الباهرة!

   العمري يقول، إذن، إنّ هذه الرّباعيّة بلاغة تطبيقيّة؛ أمّا الجابري، فلا "يتّفق" أنّ منهجه فيها منهج بلاغي. ولقد أوضح الفيلسوف أنّ استراتيجيّتة بقيت هي نفسها في كلّ أعماله المتعلّقة بالموروث الثّقافي: إنّها استراتيجيّة تراهن على "التّجديد من الدّاخل"[xlvii]، وتسعى إلى "جعل المقروء معاصر لنفسه ومعاصرا لنا في نفس الوقت"، وهذه الاستراتيجيّة محكومةٌ برؤية، أرسى دعائمها بخطوات منهجٍ تبنّاه منذ «نحن والتراث»[xlviii]، منهج تكويني بنيوي، باختلافٍ في التّعامل مع المرحلتين، وفي المفاهيم الموظّفة، وذلك تبعا للموضوع والمسائل المعالجة. ذلك لأنّ المنهج، عند الجابري، لم يفقد مناعته، بتعبير نجيب العوفي، فهو يكيّفه بحسب الموضوعات والمسائل، وليس العكس. ومن السّمات العامّة للمنهج الّذي استخدمه الفيلسوف في الرباعيّة الأولى وفي الرّباعيّة الثّانيّة أنّه يقتصر فيه "على «الحفر والتّحليل » ويترك «التّركيب»، واستخلاص النّتائج للقارئ نفسه[xlix]. ونورد، في هذا الكلام المقتضب عن المنهج، تحديده لجدليّة التّاريخي والسّياسي في أعماله، يقول: «كنت في هذه المؤلفات التي تنتمي إلى نحن والتراث، والتي منها هذا الكتاب، كمن يطل من النافذة على شارع معين، وبطبيعة الحال لم يكن من الممكن أن أرى نفسي أمشي في ذلك الشارع وأنا أطل عليه. ومع ذلك فلا بدّ من الاعتراف بأنني، عندما كنت أكتب مقالات وكتبا خارج أفق «نحن والتراث»، متحركا وسط زحام ذلك الشارع، كنت أشعر بالنافذة تطل علي باستمرار.

   ذلك في الحقيقة مظهر من مظاهر «جدلية السياسي والثقافي» في مسيرتي الفكرية، منذ أن بدأت أحس فعلا أني أشق طريقي فيها: جدلية قراءة التاريخ بالسياسة، وممارسة السياسة – عمليا أو ذهنيا- باستحضار التاريخ. وإذا جاز لي أن أعتز بشيء في هذه المسيرة فهو حرصي الدائم على إحراج السياسة بالتاريخ وليس العكس»[l]

   فيظهر أنّ الجابري لم "يتردّد" في المجال الّذي يشتغل فيه، وفي اصطناع منهج مرتبط بذلك المجال؛ وادّعاء العمري عكس ذلك، واستناده إلى صاحب "نقد العقل العربي" في ذلك الادّعاء إنّما هو عمل بما يعلم أنّه خطأٌ، و"عمل الرّجل فيما يعلم أنّه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف"، وإلا فهو إقدامٌ على ما لا يدري أصوابٌ هو أم خطأ، و"إقدام الرجل على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جِماح، والجماح آفة العقل"، يقول ابن المقفع.

خاتمة:

   تحدّث الجابري عن "منطق توالد الكتابة" لديه، ويظهر أنّه توالد محكوم بديناميّة متغيّرات متشابكة شتّى ترجع لعلاقة الفيلسوف بالمجتمع والتّاريخ والعالم من جهة، وانخراطه الحرّ في الفلسفة من جهة أخرى. وقد جاء سرده لذلك التّوالد سردا بسيطا في صيغته، ونزيها في محاولة الوفاء للوقائع؛ إلّا ما كان راجعا للتّفاوت الأصيل بين طبيعة عمل اللّغة والخطاب وطبيعة الواقع، وقد كان مدركا لذلك ملحّا عليه. وفي ظنّنا أنّ ذلك السّرد أظهر كيف تعمل السّياقات على توالد الكتابة بفعل متغيّرات غير قابلة للعدّ والضّبط؛ وأبرز أنّ الكتابة ليست لعبا شكلانيّا وتنفيذا لمخطّطات وتصوّرات مسبقة، وليست، بالمقابل، إلهاما ووحيا وعرفانا، لِأنّها ببساطة فعل دينامي. والكتابة عن الكتابة، تتمّ، عند الجابري، بطرق تحاول التزام صيغ تكون أقرب لالتقاط تلك الديناميّة، وأكثر وفاء لطرق تفاعل الذات مع الأشياء والوقائع. ولا أدري كيف يمكن لمن مرّ، ولو مرة واحدة، ببعض الحقول اليانعة للفلسفة حتّى في اللّحظات التي كانت فيها هي "الأمّ"، ولمن له بعض اطّلاع على كتابات الجابري أن يصيح ويصرخ: أنظروا إنّه يستعمل أدواتي، أدوات البلاغة، وهو الذي يهاجمها باسم البرهان؟ يجب إن استعملها أن يكون بلاغيّا تابعا للإمبراطورية، ينصت في بعض حاراتها لمعلمي "التّشاجر"، وإن لم يفعل فإنّ عليه أن يفعل! أمّا نحن، فنجزم أنّ الفيلسوف كان صادقا حين قال إنّ "الأخلاق" تعرضّت له، ووقفت أمام ناظريه ونادته.

 

[i]- "البيان الرابع: تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة"، من مقدمة الطبعة السابعة. أنظر: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 13، 2024، ص.5.

[ii]- العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، م.م، ص.48.

[iii]- محمد العمري: الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، الوارد ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016، ص. 106.

[iv]- يقول الجابري: «يمكن أن نلتمس لمفهوم «النظام المعرفي»  Epistémèتعريفاً أوليا ومجردا في العبارة التالية: النظام المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تُعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية». أنظر: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 15، 2021، ص. 37.

[v]- كان أوّل من انتقد الجابري في هذه النّقطة بالانطلاق من المعنى المنطقي الضّيق لكلمة البرهان هو طه عبد الرحمان في كتابه: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام. فبعد أن غيّب كل توضيحات الجابري، وأسقط عامدا السياق ومعه كل تاريخ الفلسفة الّتي كانت تشمل كل العلوم لا المنطق وحده، وبعد أن قرّر أنّ البرهان ينبغي أن يستعمل بمعناه المنطقي المعاصر باعتباره استدلالا قابلا للصورنة والحساب الآلي، وأن اللّغة الطّبيعيّة أوسع من أن تُحْشر في هذا النّوع من الاستدلال الضّيق –وهذا أمر لا خلاف فيه في حد ذاته- قال عن الجابري: «فادعاؤه «بيانية العقل العربي» لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه بناه على طريق «برهاني»، وإما أنه أخرجه بطريق «البيان». وقد بينا أن «البرهان» ممتنع على كل نظر يصاغ بواسطة اللسان الطبيعي، وكلام صاحب الدعوى كما هو معلوم في مسألة «العقل العربي» وارد على سنن الخطاب الطبيعي، فأحكامه وافتراضاته إذن لا يمكن أن تكون «برهانية» بالمعنى الذي قال به؛ وإذا سقطت «برهانية» دعواه، ثبتت بيانيتها. ومعلوم أنه لا يقول بيقينية المعرفة «البيانية» ولا بعلميتها بل يقول بإعاقتها الفكر العلمي، وما أجراه على المعرفة «العربية» عامة أحق أن يجري على هذه الدعوى الخاصة، فهي ليست بيقينية ولا بعلمية، بل هي دعوى تعوق العلم». أنظر: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط. 2، 2009، ص. 149.  وقد كرّر هذا الكلام المُتحامل البعيد عن العلم وعن الحق، بعد ذلك، في مناسبات مختلفة، وكرّره معه خلق كثير!

[vi]- الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 15، 2024، ص. 413.

[vii]- أنظر توضيحا مختصرا عن الكتاب الّذي اعتمد عليه الجابري لــ"Festugière" بالهامشين (11) و(12) في: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 15، 2021، ص. 184.

[viii]- نفسه، ص. 166-167.  

[ix]- نفسه، ص. 82.

[x]- نفسه،، ص.343.

[xi]- يقول مؤاخذا الجابري الّذي طابق –حسب زعمه!- بين "الخطاب" عند الباقلاني و"النّظم" عند الجرجاني: «إني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك». أنظر: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999، ص.215.

الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، م.م، ص. 106—107-108.

  • [xii]- إشارة إلى بيت جرير: "وَابْن اللَّبون إذا ما لزّ في قَرن** لَم يَسْتطع صَوْلةَ البزلِ القناعيس". وهذا بيتٌ لا يَمَلّ العمري من تكراره؛ وهو يستحضره في هذا المقال، أيضا، ليقنع، مماثلة، بغلط لز الجابري "البلاغة المعاقة" مع البزل القناعيس! ومِن كلامه الّذي وظّفه فيه، وتجدر الإشارة إليه هنا بمناسبة حديثه في "الفلسفة" ما يلي: «أما لماذا لم أكتب عن أعمال الأستاذ (يقصد حميد الحميداني) قبل اليوم(؟) فالمسألة في منتهى البساطة والموضوعية. ألم يقل هو نفسه، في صلب مقالته، بأن اختصاصي هو البلاغة؟ هل كان يريد مني أن أتحدث في الرواية والسرديات أم في كتابة المرأة؟! سأكون، إن فعلت، كابن اللبون الذي لُزّ في قرن مع الفحول فلم يستطع صولة البزل القناعيس، فرفسوه عدة مرات وظل معلقا بين الأرض والسماء. تخصصي، كما تفضلتم، هو البلاغة ثم الشعر القديم، إن سمحتم. من دخل هذه المنطقة سلمت عليه ورجوت أن يرد التحية بأحسن منها أو مثلها. أتمنى أن يكون اللبس قد رفع في هذه المسألة أيضا، ولذلك فالأمر لا يتعلق بصحوة مفاجئة بل بوقوف المرء عند ما يحسن» أنظر: محمد العمري: أسئلة البلاغة في النظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا الشرق، البيضاء، 2013، ص. 212-213.

[xiii]- الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، م.م، ص. 106—107-108.

[xiv]- الجابري: العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 10، 2025، ص.22.

[xv]- نفسه، ص.21.

[xvi]- يقول الجابري: إنّ «العقل السياسي كممارسة وإيديولوجيا، وهو في الحالتين ظاهرة جمعية، إنما يجد مرجعيته في المخيال الاجتماعي وليس في النظام المعرفي. النظام المعرفي يحكم الفعل المعرفي أما المخيال الاجتماعي فبما أنه منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز فهو ليس ميدانا لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد. وهكذا فإذا كان النظام المعرفي، كما سبق أن حددناه، هو جملة من المبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية، فإن المخيال الاجتماعي هو جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للإيديولوجيا السياسية، في فترة تاريخية ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة بنيتها اللاشعورية. إن هذا لا يعني أن هناك انفصالا تاما بين العقل السياسي والنظام المعرفي، كلا. إن العقل السياسي هو قبل كل شيء «عقل»، فهو إذن يرتبط ضرورة بنظام معرفي. ولكن بما أنه «سياسي» فهو لا يتقيد بنظام معرفي واحد ولا بمبادئ ولا بآليات هذا النظام أو ذاك. بل هو يمارس «السياسة» في هذا المجال فيوظف ما يناسب قضيته ويخدم قناعاته: يوظف البيان (التشبيه والاستعارة والتمثيل والتورية والقياس) ويوظف العرفان (المماثلة) كما يوظف الاستقراء والاستنتاج، وفي نفس الوقت يعمل بمبدأ «لكل مقام مقال»، هدفه إقناع الغير.. ». أنظر: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، م.م، ص.16.

[xvii]- يُبرّر الجابري، مثلا، عدم الرّبط الحصري للعقل السياسي بمكونات العقل النّظري قائلا: «العقل السياسي في أية حضارة يرتبط ضرورة بالنظام أو النظم المعرفية التي تحكم عملية التفكير في هذه الحضارة ولكن، فقط، بما هو «عقل» وليس بما هو «سياسي». وهو إذا ارتبط بها، بوصفه كذلك، أي بما هو سياسي، فإنه لا يخضع لها، بل يحاول إخضاعها لما يريد تقريره: يمارس السياسة فيها. العقل السياسي، إذن، ليس بيانيا فقط، ولا عرفانيا فقط، ولا برهانيا وحسب، إنه يوظف مقولات وآليات مختلف النظم المعرفية حسب الحاجة. السياسة تقوم على البراغماتية (=اعتبار المصلحة) فهل ننتظر من العقل السياسي أن يناقض موضوعه، ما منه يستمد هويته». أنظر: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 13، 2024، ص.8. وقد أوضح، قبل ذلك، أنّ ممّا جعله لا ينظر إلى العقل السّياسي من خلال النّظم المعرفيّة فراره من تكرار ما قاله " حول مسألة الخلافة عند أهل السنة في سياق حديثه عن تكوين النظام المعرفي البياني، وحول الولاية والإمامة في إطار تحليله للنظام المعرفي العرفاني، وحول "المدينة الفاضلة" عندما كان بصدد شرح الكيفية التي حاول بها الفارابي تبيئة النظام المعرفي البرهاني –الأرسطي- في الثقافة العربية"، نفسه، نفس الصفحة. وقد نقلنا هنا كلامه واكتفينا بتغيير ضمير المتكلّم. ويقول عن اعتماده تصنيفا يستوعب مفاصل وتفاصيل "نظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية: «إنه، من الناحية المبدئية، لا شيء يمنعنا، هنا في مجال "العقل الأخلاقي العربي"، من توظيف التصنيف نفسه الذي عملنا به في "العقل السياسي العربي"، فنتحدث مثلا عن "أخلاق القبيلة" و"الغنيمة" وأخلاق العقيدة"، و/أو "أخلاق الخليفة" و"أخلاق الخاصة" و"أخلاق العامة"! ولا شيء يمنع كذلك من اعتماد التصنيف الذي عملنا به في العقل النظري، فنجعل "الأخلاق" في الحضارة العربية الإسلامية ثلاثة: "أخلاق بيانية" و"أخلاق عرفانية" و"أخلاق برهانية"؟!

ومن الجائز أن يتوقع المرء أن المهمة ستكون سهلة لو أننا اعتمدنا أحد التصنيفين السابقين! غير أننا لو فعلنا لارتكبنا خطأ مضاعفا: فمن جهة كنا سنكرر بعض ما قلناه بصدد مضامين "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" و"الخليفة" و"الخاصة" و"العامة"، أو "البيان" و"العرفان" و"البرهان"! فهذه مفاهيم اجتماعية إنسانية محملة بأحكام القيمة، بل كثير ما تتحول هي نفسها إلى قيم في ذاتها، وقد سبق أن أبرزنا هذا الجانب فيها ومن جهة أخرى كنا سنفرض على موضوعنا تصنيفا لا يستوعبه ونمذجة لا تغطي جميع فضاءاته. إن عالم القيم في الثقافة العربية هو في الحقيقة عوالم، وليس عالما واحدا، لأن الثقافة العربية لم تكن في الحقيقة ثقافة بالمفرد، بل كانت ثقافة بـ"الجمع"، فوحدتها لم تكن وحدة "الواحد"، بل وحدة "المتعدد".» أنظر: العقل الأخلاقي العربي، م.م، ص.21.

[xviii]- أنظر اضطرار الجابري إلى تقديم "بيانات حقيقة" لمحاولة تجنب ذلك في كلمته التي قدم بها "العقل السياسي" في ندوة بالقاهرة، وألحقت بالكتاب كمقدمة للطبعة السابعة: العقل السياسي العربي، م.م، ص. 1 وما بعدها.

[xix]- تكوين العقل العربي، م.م، ص.13-14.

[xx]نفسه، ص. 15.

[xxi]- نفسه، ص. 16.

[xxii]- الجابري، العقل السياسي العربي، م.م، ص.7.

[xxiii]- العقل الأخلاقي العربي، م.م، ص.22.

[xxiv]- نفسه، ص.21. وقد أشرنا إليه في هامش سابق. وجدير بالإشارة أنّ الفيلسوف قدّم، أيضا، مبرّرات فصله المنهجي بين شقّي العقل العملي في حقل الثّقافة العربيّة. والعمري يستبعد ما هو أساسي بالنّسبة للفيلسوف، ويشير إلى معطيات لم يعتبرها صاحب "نقد العقل العربي" كافية لتناول "العقلين" معا في إطار تصنيف واحد، وبمفاهيم مشتركة، لأنها لا تعدو أن تكون معطيات ترتبط بالتقليد الفلسفي الذي يعالج السّياسة والأخلاق في إطار "العلم المدني" أو "العقل العملي"، وهو تقليد غير مسعف لتناول الأخلاق في حقل الثقافة العربية الإسلامية وفق توضيحات الفيلسوف في مدخل كتاب "العقل الأخلاقي العربي"، وفي "البيان الثّاني" من مقدّمة الطّبعة السّابعة من "العقل السياسي العربي". هذا واستبعاد الأساسي في أعمال الفيلسوف يأتي من "حليف" يقدم قراءة "أدق وألصق" بأعماله!

[xxv]- لا يغيب عنّا مجاهرة العمري بعدائه لهؤلاء في المجال السياسي!

[xxvi]- المستمَع هي ترجمة العمري لـ "Auditoire"؛ وقد يأتي الصواب في كلام السّفسطائي، كما تأتي الحكمة من أفواه أولئك!

[xxvii]- تكوين العقل العربي، م.م، ص. 340.

[xxviii]- Chaim Perelman: L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme Éd.,  2012. P,  24.

[xxix]-: Ibid., P, 17-25.

[xxx]- Michel Meyer: histoire de la rhétorique, Des Grecs à nos jours, Librairie Générale française, Paris, 1999, P.206.

[xxxi]- حمو النقاري: منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، دار الأمان، الرباط، ط. 1، 2005، ص. 498.

[xxxii]- نجيب العوفي، ظواهر نصية، منشورات عيون المقالات، مطبعة النجاح الجديدة - البيضاء، ط. 1، 1992، ص. 10.

[xxxiii]- من كلام للجابري، أورده نجيب العوفي، نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.

[xxxiv]- تكوين العقل العربي، م.م، ص. 32.

[xxxv]- نفسه، ص. 51.

[xxxvi]- ابن خلدون: المقدمة، ت. حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط. 1، 2004، ص. 560.

[xxxvii]- الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، م.م، ص. 105.

[xxxviii]- سنرى، في قادم، أن اختيار الإجابة الراجحة والنافعة للزمن المعاصر هو مرتكز أساسي لكتاب الجابري في "التفسير".

[xxxix]- من هذه الزاوية نستغرب رأي عبدالسلام بنعبدالعالي الّذي يقول إنّ «الضحية في كتاب تكوين العقل العربي، ليست في نظرنا نظاما بعينه من تلك الأنظمة، ولا تيارا من تلك التيارات، ولا هي ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة شعبية، وإنما الخيال الرمزي الذي نما على أرض الإسلام وأشبعت به حتى الثقافة العالمية ذاتها، والذي كان، في معظم الحالات، المتنفس الوحيد ضد تحجر العقل وتصلبه». أنظر: التراث والهوية، دراسات في الفكر الفلسفي في المغرب، دار توبقال-البيضاء، ط. 1، 1987، ص.33-34.

[xl]- أهمّها تعدّد أبعاد الظّواهر الّتي تتّخذها موضوعات للدّراسة وتداخلها.

[xli]- الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، ج.1، في التعريف بالقرآن، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 1، 2006، ص.13-16.

[xlii]- الجابري: فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الأول، دار النشر المغربية-البيضاء، ط. 1، 2008، ص. 8.

[xliii]- نفسه، ص. 6.

[xliv]- نفسه، نفس الصفحة.

[xlv]- نفسه، نفس الصفحة.

[xlvi]- نفسه، نفس الصفحة.

[xlvii]-  يقول: «كانت استراتيجيتنا، وستبقى، تقديم قراءات لموروثنا الثقافي تفسح المجال لعملية التجديد من الداخل، العملية التي هي وحدها القادرة على إتاحة الفرصة لنا لإعادة البناء. فعلا، العملية طويلة وشاقة، ولكنها جادة: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». أنظر: مدخل إلى القرآن الكريم، م.م، ص.428.

[xlviii]- مدخل إلى القرآن الكريم، م.م، ص.16.

[xlix]-يقول: «وكما فعلنا في أجزاء «نقد العقل العربي»، فقد فضلنا الاقتصار على «الحفر» والتحليل والإشارة إلى ما نعتقده الحقيقة، تاركين للقارئ مهمة «التركيب»، اقتناعا منا بأن خير نتيجة يمكن أن يحصل عليها قارئ كتبنا هي تلك التي يستخلصها بنفسه» أنظر: مدخل إلى القرآن الكريم، المرجع السابق، ص.428.

[l]- نفسه، ص.15. ويقول: «نسجل هنا شعورنا بأننا قد تمكنا من جمع شتات حقائق تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية نعتبرها ضرورية في أي فهم للقرآن، وبالتالي للإسلام، يريد أن يؤسس رؤية معاصرة بالمعنيين اللذين شرحناهما في كتابنا نحن والتراث: أقصد رؤية معاصرة للدعوة المحمدية، أعني لزمانيتها وفضائها الثقافي من جهة، ومعاصرة لنا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين على صعيد الفهم والمعقولية». نفسه، ص.72.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ابن خلدون: المقدمة، ت. حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط. 1، 2004.
  • حمو النقاري: منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، دار الأمان، الرباط، ط. 1، 2005.
  • عبدالسلام بنعبدالعالي: التراث والهوية، دراسات في الفكر الفلسفي في المغرب، توبقال-البيضاء، ط. 1، 1987.
  • طه عبد الرحمان:  في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط.2، 2000. محمد عابد الجابري:   تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 15، 2021.  
  •       بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 15، 2024.
  •         العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 13، 2024.
  •       العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 10، 2025.
  •     مدخل إلى القرآن الكريم، ج.1، في التعريف بالقرآن، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 1، 2006.
  •     فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، القسم الأول، دار النشر المغربية-البيضاء، ط. 1، 2008.
  • محمد العمري: أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا الشرق، البيضاء،2013.
  • البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.
  •    الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016.
  • نجيب العوفي: ظواهر نصية، منشورات عيون المقالات، مطبعة النجاح الجديدة - البيضاء، ط. 1، 1992.
  • Chaïm Perelman: L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme É, 2012.
  • Michel Meyer: histoire de la rhétorique, Des Grecs à nos jours, Librairie Générale française, Paris, 1999, P.206.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟