أنفاس

21
الأربعاء, ماي
15 مواد جديدة

يرهص ديوان "بغير جناح" للشاعر المغربي ياسين الحراق بتجربة شعرية تنحو نحو خوض غمار أفق إبداعي مغاير يروم تجريبا صادرا عن رؤية تتغيا خلق أشكال تعبيرية مختلفة عن الأنماط الشعرية المألوفة بشتى ألوانها وحساسياتها . فالديوان يتوزع على ثلاثة أقسام ( سدرة الفناء ، جذبة الظل ونافذة أخرى) وكل قسم يتضمن نصوصا تتفاوت على مستوى التركيب الإيقاعي ، والبعد الدلالي باستعمالات لغوية متعددة الامتداد المجازي ،والتنوع المعجمي بما ترسمه من صور موسومة بطابع الاختلاف والتجريب من خلال تشبيهات تشذ عن الشائع ، وصيغ تنشد خلق طرائق تنعتق عن ربقة المألوف بانخراطها في رسم ملامح مسار ينزع نحو التجديد والتجريب باختراقه لسديم عتبات حصينة ، واجتراحه لضفاف يجللها النأي والوحشة في استخدام أساليب شعرية نوعية من قبيل : " ذق هذه الحيرة " 11، من خلال ربطه بالحيرة كإفراز نفسي محفوف بالريبة والارتباك بحاسة الذوق في حدودها المادية المعروفة ، استعمال تتعدد آفاقه ، وتتنوع تجلياته في نصوص المجموعة كقوله : " لا تطوي ظلك"21 ، أو : " مثل مياه في جبة الوجد " 24، أو : " يتورق فينا بعض الحجر"84، وكلها صور تشذ عن الأنماط الشائعة لما تزخر به من معالم زخم غني بتشبيهاته الرامية إلى التئام التنافر الدلالي عبر تقريب الهوة بين مكوناته المعجمية ، ومد الجسور بين ألفاظها ومعانيها للانتظام في جوقة تنأى عن النشاز بخلق التناغم المقصود والتجانس المطلوب .

صدرت رواية "همس الأقدار" لعبد العزيز بلفقير عن دارسلمى الثقافية للنشر سنة 2016، يقتحم فيها الكاتب هذه المرة مغامرة الكتابة الروائية، على غرار تجربته القصصية الأولى "الأرض البعيدة"، وفي هذا النص نكتشف نزوحا نحو المحلي وتأسيسا للتعالق النصي.
ينهض المروي أساسا على سيرة عيسى مثالا للشخصية النمطية في أصقاع الجنوب الشرقي بالمغرب. شخصية عيسى المنحدرة من أقاصي الجنوب الشرقي والمنشغلة بتفاصيل معيشها اليومي بالدار البيضاء تختار الزواج في مدشرها من فاطمة، زواجا دام عقدا من الزمن، غير أن صدفة القدر لم تأتيه بالذرية منها. وظل محكوما بإكليشيهات الثقافة المحلية التي تربط الفحولة بالإخصاب.
وبعد يأس وانتظار أعياه يقرر الزواج من جديد في الدار البيضاء من حليمة التي شاركته ورش العمل. وتسير خطية السرد بقاعدة التحول. فبرهة زواجه من حليمة وترتيبه إجراءات الطلاق من فاطمة أتاه خبر حملها باليقين. فما كان لعيسى إلا أن يسلم نفسه لمشيئة الأقدار.

شعرية الاحتفاء بأرواح الشهداء
والتنديد بغطرسة الغازي الممتهن لتصفية الأبرياء
وإعلان مشاعر الحب والولاء لأحبته الأصفياء
يندرج هذا الديوان الشعري للمقاوم الفلسطيني الفدائي في إطار مرثيات الزمن العربي الجريح، والتنديد بهمجية الآلة الحربية للعدو الإسرائيلي الذي استباح الأرض المباركة لفلسطين، وفرض بقوة الحديد والنار احتلال الربوع والتلال، والسهول والجبال التي كانت فيما مضى مرتع الأنبياء المبشرين بحلم البشرية.
إنه ديوان يسجل بكل جرأة ما ارتكبه الغازي الغاشم من جرائم سفك دماء المقاومين دفاعا عن أراضيهم المغتصبة، والتنكيل بأصحاب الضمائر الحية من الفلسطينيين المجاهدين والمجاهرين بحقيقة ما يقترفه العدو الإسرائيلي من مجازر والزج بهم في دهاليز سجونه التي أصبحت وصمة عار في جبين البشرية في الزمن الحديث والمعاصر.
إنه ديوان يرسم فيه الشاعر المقاوم صور الفجائع والدمار في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين النازحين إلى جنوب لبنان، وإلى رمز الصمود والتصدي؛ بيروت المغتالة التي وطأتها بوارج العدو بحرا، والطائرات الحربية جوا، ومدافع الدبابات برا لمحاصرة الناشدين للحرية والانطلاق، واستنشاق خالص الهواء.

لا أدري إن كان يحق لي الاعتراض على حدث ثقافي تعرفنا إليه نهاية هذه السنة، ( وأنا أعني بها طبعا سنة 2020) ، فنحن عادة يروقنا أن يمطرنا الآخر بالمجاملات والمدح، ولكن أن نتعرض للنقد، ( في الاختلاف بركة وحداثة. أليس كذلك؟)،فهذا ربما لا نريد له أن يحدث، لأن النقد يكشف لنا مواطن العيوب، والأخطاء والزلات.يقال عادة لا عيب في أن نرتكب الأخطاء والعيوب، ولكن أن تُرتكبَ مرات عديدة، فهذا يقتضي منا وقفة تأمل واستكناه، حتى لا يعاد إنتاجها مرة ثالثة ورابعة وخامسة، مع العلم أننا نعرف أن هذه المهزلة لن تزول، لأن المصنع الذي يصنعها، لم يصب بالإفلاس بعد، فحتى المثقفون يصنعون الأعاجيب، في عالم اللامبالاة والتفاهات، وقد يتمثلون دور السلطة- أي سلطة- التي كانوا يدعون بأنهم يعارضونها، في ما مضى من الزمان.

تتسم رواية " الساعاتي " للكاتب المغربي حسن إمامي بوفرة الشخوص ( أكثر من 50 شخصا) ، وإن تفاوت حضورهم داخل نسيج الرواية حسب قيمة ما أوكل لهم من مهام وأدوار في ارتباطها بأحداث لا تقل هي الأخرى غزارة ، وما عرفته من تداخل وتشابك أغنت به المتن السردي ، وشرعته على آفاق تزخر بحمولات ذات طابع تأويلي علقت مآلاته على أفق انتظار تغذى من امتدادات سيرورتها في تفاعلاتها وتقاطعاتها وتناقضاتها وتوافقاتها.
وتبقى شخوص من قبيل الساعاتي علي بودحان ، ولطف الله ، وصديقه عبدالله ابن الساعاتي ، وحياة النفوس ، وعمر بدوي ، ومفتش الشرطة عزيز ، وماريا ، ورشيد الأمراني المحامي ، وصالح الطباخ ، وإلى حد ما فريد شقيق حياة النفوس بحكم أنها شخصيات أمسكت بخيوط النسيج الروائي ، وساهمت في بناء الأحداث ونموها ،وما عرفته من متغيرات ومستجدات تأرجحت بين الثبات والتحول، والسكون والانزياح في ارتباطها بأمكنة تميزت هي الأخرى بالوفرة ( فاقت 20 مكانا) ، وإن كان لبعضها قيمة أكبر من حيث مجريات الأحداث كمحطات احتضنت وقائع مؤثرة مثل حي المحيط ، وأكدال، وحي الرياض ، وحي حسان ، وأخرى خارجية بحضور أقل تأثيرا ( ميلان وصقيلية بإيطاليا ، وفارو البرتغالية) . وقد منح هذا الكم الوازن من الشخوص والأمكنة الرواية نفسا انزاح بها نحو الطول والامتداد عبر الخوض في تفاصيل وجزئيات بشكل يتخذ منحى استطراديا لا يخلو من إطناب وإسهاب لم ينل من البناء العام للرواية لما يميزه من إحكام ومتانة تجنبه مغبة السقوط في نواقص وهنات من قبيل التفكك والتهلهل.

" الإشتياق إلى الجارة " رواية للأديب التونسي الحبيب السالمي، صادرة عن دار الآداب للنشر و التوزيع ببيروت في طبعة أولى عام 2020 و هي تقع في مائتين و ست صفحات.
لعلّ ما يشدّ القارئ في كتابات الحبيب السالمي، السلاسة و بساطة السرد، فالرواية عند السالمي تتدفّق دون تكلّف كأنّها نهر يجري في مساره دون معوقات لذلك من الطبيعي أن يشعر القارئ براحة الكاتب في الرواية، هذه الراحة التي سرعان ما تمرّ للقارئ نفسه فتجعله مشدودا للأحداث، مصرّا على تقصّيها حتى نهايتها.
فالسالمي كاتب هادئ ينجح نجاحا باهرا في تمرير هذا الهدوء للقارئ فيستلبه برصانة الكلمة و متانة الأسلوب.كما ينجح أيضا في الحفر عميقا في نفوس شخصياته فرغم محدودية الفضاء المكاني للرواية ( عمارة سكنية ) إلاّ أنّ كثافة الوصف و دقّة التعبير عمّا يعتمل دواخل الشخصيات، يجعل القارئ يتجوّل داخل التقلّبات النفسية التي يعيشها أبطال الرواية و العلاقة فيما بينهم و كأنّ الكاتب يستدرج قارئه فيجعله شريكا في الأحداث لا مجرّد متابع لها.

       إن أيّة قراءة للمجموعة القصصية " جنازة امرأة"، للقاص جواد السراوي، لا يمكن أن ثُلِمَّ بجموع التفاصيل، والأحداث الكثيرة والمتنوعة في المجموعة. وراهنية البعض منها، بل لحظيتها. فالمجموعة تعتبر ناطقة بلسان حالِنا، ومعبرة عن أبعاد وجودنا الإنساني، في كينونته وتجلياته. إن قراءتنا لهذا المجموعة، تتخذ من الحضور الفلسفي مدخلا لها، إذ أن الكاتب عَمِل في مجموعة من المناسبات وفي مختلف لحظات بنائه القصصي على النبش في التساؤلات الفلسفية التي تحرك الفكر البشري، وهذا ما بدا واضحا، بدءا من العنوان " جنازة امرأة"، فالجنازة كدلالة على الموت، تقتحم حياة الناس، على حين غفلة منهم، وهي تشكل ذلك المنعطف الذي يُفصل الإنسان عن العالم المادي الملموس، ويُقْحمه في عالم آخر مجرد وغير مرئي، ناهيك عَمّا تخلفه من أثار نفسية واجتماعية على ذوي الفقيد(ة).

يتحرك عالم ميلان كونديرا الروائي بين مجموعة من الأقطاب، الخفة والثقل، الروح والجسد، القوة والضعف،[1] ضحك الملائكة لأن كل شيء له معنى، وضحك الشياطين لأن العالم كله لا معنى له.[2] وفي روايته الأشهر "كائن لا تحتمل خفته"، يأتي قطبا الخفة والثقل في المركز، ويدور حولهما كل شيء. فالرواية التي تبدأ بسؤال لشخصية توماس الذي يقف محدّقا في جدار يتساءل: أيدعو تيريزا لتأتي إلى بيته مغامرا بإثقال حياته بالحب، أم يدعها تمر وينساها كطيف آخر عابر؟ لا تلبث أن تنطلق من هذا التساؤل لسؤال أعم؛ ما الأفضل: حياة نعيشها متخففين من كل ثقل وشعور ومعنى ندور في الهواء دون شيء يربطنا بالأرض، أم أخرى ترتسم فيها خطواتنا وفقا لجاذبية المعاني والمشاعر الثقيلة؟
لكن كونديرا لا يعطينا أي إجابات، فالرواية بالنسبة له "لا تؤكد على أي شيء، بل تبحث عن أسئلة وتطرحها".[3] وفي ظل هذا السؤال حول الخفة والثقل، تتحرك الشخصيات الأربعة الأساسية، توماس وتيريزا وفرانز وسابينا، كثنائيات يلعب كل فرد فيها على أوتار مختلفة في أنغام الخفة والثقل، تتضافر معا وتنسجم مُشكّلة جسد الرواية.