
و"منذ صنعوه منذ بدأ يعمل وهو ينطلق بنا" . بهذا حدثني جاري الطبيب الخمسيني ولم اكن لأشك فيما قاله بالكاد اذكر شيئا سابقا على صعودي اليه . لقد استيقظت على ضجيجه ونشأت على دعوة المبهمة، ورغم ان سرعته كبيرة إلا أن الوقت كان يتقدم بنا ببطء شديد. قليلا ما تحدثت إلى رفيقي وجاري على المقعد الجلدي . كنا نتبادل النظرات مع الاهتزازات العنيفة. وكان الصخب واللغط حولي يمتص رغبتي في الكلام ويبددها. حدث غير مرة ان هممت بالحديث فإذا بالضوء ينطفىء قبل أن اتفوه بكلمة. كان بوسعي بالطبع أن اتحدث في العتمة، وان اعلى صوتي ليسمعني جيدا خلال ذلك .
الا ان وقع الكلام في العتمة ليس كوقعه في الانارة . والحلول المفاجىء للعتمة يشتت افكاري ، علاوة على مايثيره من توجس مشروع فما الذي يمنع في الاثناء من ارتكاب جريمة خاطفة.
أما الجاران الآخران قبالتي ، السمين القصير والطويل الاصلع ، فقد كانا في انشغال عن كل ماحولهما، وينهمكان في احاديث لا تتوقف وبصوت غير خفيض عن الربح والخسارة واصول التعامل والفرص التي لا تضيع وعما يصح وما لا يصح . يتحدثان بأنفاس لاهثة وبتفاهم ظاهر ولا يعيقهما شىء : لا ظلمة مفاجئة ولا حال من هرج ومرج . ومع ذلك كان لابد لي ان اتحدث وأبادر الى الحديث . اذ كان جاري من النوع العادي الذي يبادلني صمتا بصمت وحديثا بحديث . . الانفاق . . انها الانفاق