… لم يبرح الحزن فؤاد "السيد سين" بعد، حزينا، منكسرا، كسيف البال ما يزال، بيد أنه يتحامل على نفسه، فيتصنع الانشراح، يتباسم طورا و "يتمسحق" بأمارات السعادة الظاهرية ليخفي شقاءه وتعاساته.
بات شديد النقرة من الناس، كثيرا الازورار عنهم. قلى الأمكنة التي ارتادها هنا وهناك في أحياء مدينته المكمورة في جوف الأطلس لتحرسها الجبال من كل الجهات. في العدوة الشرقية للمدينة تسيدت مقهاه الأثيرة "لافونتين" الأنيقة والفخمة، هناك يقهي، ويلتهم ما يقع في يديه من كتب الأدب العزيزة على قلبه، ويتصفح الجرائد التي يجود صاحب المقهى بها على زبنائه من "العيار" الخفيف، أمثال السيد سين، هناك يحس بالاغتراب وعدم التجانس مع فضاء أعد لغيره : لأعيان المدينة. خلا هذا المكان، وتنبه السيد "سين" ألا يوقفه أحد قط، وأن يكتفي بإرسال التحية إليه من بعيد، لكن لما يحدث أن يستوقفه أحد يبدل جهدا كبيرا كي يبدو متماسكا، محاولا السيطرة على أعصابه، والحفاظ على هدوئه وإذا كانت نار ملتهبة تثوي بداخله، آه لكم ودّ أن يصرخ في وجه الناس : كلكم منافقون، لئام، ثعالب، أنانيون، وصوليون، انتهازيون، همازون، لمازون، مشاؤون بنميم، ولكنه يتذكر الناس الطيبين فيتراجع في آخر لحظة.