anfasse30085لم يكن أحد ليحفل بنهاية حياة تلك النبتة التي كانت لحدود اليومين الماضيين تبدو بحالة لا بأس بها تقريبا و هي في ذلك الأصيص المهمش في ذلك الركن القصي من البيت و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده احد.
مع انها ظلت حريصة منذ أن تم انتدابها عصر ذلك اليوم الخريفي من  ذلك المشتل الصغير الذي يقع في ذلك المكان البعيد في أطراف تلك المدينة الصاخبة و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده أحد ، ظلت  بغريزتها النباتية حريصة على القيام بدورها في تذكير الجميع بعلاقتهم المتوترة بتلك الطبيعة الأم ، تلك التي تقع على مرمى حجر من نوافذهم الموصدة دائما ، الشبه مفتحة أحيانا في تحسب غير بريء من تقلبات الفصول ، ربما ...

anfasse30081كان القطار يسير ببطء شديد: فهو مخصص لنقل جنود وجرحى الحرب، كان جاكسون هو المسافر الوحيد المتبقي على متن ذلك القطار، المحطة القادمة بقي لها عشرون مترا، وبعدها يكون التوقف في كينكاردين والبحيرة، وعدا عن ذلك فقد كان جاكسون محظوظا؛ إذ تم حجز تذكرة له  للسفر في القطار دون أن يتحمل أية تكاليف مادية.
       
 تنفّس الصعداء أخيرا بعد أن سحب حقيبته ورآها تهبط في أرض لا يعرفها، جال ببصره من جديد يمينا وشمالا؛ ليتسنى له استكشاف المكان ثم بدأ يراقب القطار وهو يمضي في طريقه دون أن يلتفت إليه أو ينظر إلى  الوراء. وما كاد جاكسون يستفيق من ذهوله بعد أن كان  يتخبط على غير هدى بين أحضان الطبيعة الواسعة حتى حمل حقيبته من جديد وبدأ يمشي بعكس الاتجاه الذي يسير فيه القطار.

anfasse14084لما ذهب لم يشأ أن يودعه،وتركه في مأمن من ذكرى زمن قد ولى ، تأكد له جليا  أن الذي حاول أن يجعل بين الحياة وبهجتها شرخا، كان قد كذب فيما مضى، واستجاب اليوم لنداءات ترمي به في فضاء بلا نور ولا هواء .
عندما التقيت به تأملت وجهه قليلا ،ثم باغته بلا شفقة قائلا:
أنت كاذب تعبث بالحقيقة ،وتسائِل اللاشيء ،لهذا فإنك تركن إلى زاوية في كوخ مهترئ. رد في هدوء :هذا ما يجعل الحقيقة في عينيك بلا معالم ولا حدود ،فأنت لست أنا لأنك تنقص منها وتزيد متى تشاء، وهي بذلك في مد وجزر دائمين .
بدأ يداعب لحيته ويكرر كلاما غير مفهوم ، فزع قليلا . قررت ألا أفارق المكان حتى أعرف سر كلماته التي طال الزمان بها، وهي ترزح تحت عالم الخرافات واللاممكنات :الأشباح!!العفاريت!!،التماسيح !!،إبليس !!،اللصوص !!،...المقنعون !!،.....والله !! ...

anfasse14082اللوحة الأولى
لملم ملابسه التي تناثرت على الأرائك مثل الملابس في أسواق الثياب المستعملة، ونفض حَفْنَاتِ الغبار التي تراكمت على الدِّيوَان كما النحل حين يراقص شقائق النعمان، وأودع في زوايا الغرفة شمعدانا مختلفة ألوانه، هكذا صارت الغرفة مثل قاعة أعراس تتراقص في فنائها أضواء متنوعة أطيافها، وصفَّف في المزهرية بمهارة بائعي الورود زهورَ الأُورْكِيد والقرنفل والزنبق التي عطرت الغرفة بأريج نديِّ أزاح عن هوائها ما يعتليه من عفن.

anfasse27071لم تسعفني الكلمات عندما بدأت أكتب أول سطر في الحب، لم تكن موزونة كأبيات الشعراء، ولم تكن منمقة وسلسة كجمل الأدباء، لم يكن السجع من بينها ولا المجاز ولا الاستعارة، كانت حروفا متناثرة هنا وهناك، تبحت لها عن خيط ناظم ومستقر تأوي إليه وهي تكتشف خبايا الحب الذي اخترق فؤادي مع سبق الإصرار والترصد. راسلتها في زمن لم يعد فيه للقلم شأن كبير، أملا أن تحدث عباراتي الصادقة أثرا في نفسها. كتبت تخبرني عن أحلامها وطموحها فتطابقت رؤانا وتوحدت عواملنا.
تحدثنا عبر الهاتف، في ليال قضيناها سويا نخوض في كل شيء وأي شيء حتى لا نجد شيئا نخوض فيه فنصمت، ثم نتبادل عبارات العشق والغرام ونتماهى معها كأننا أرواح بدون أجساد تثقلها. نستحضر قصص قيس وليلى وروميو وجولييت .. وننسج لها من وحي الحب نهايات سعيدة. نبني بيت الحب لبنة لبنة، صرحا صرحا، نؤثث غرفه بأجمل الأثاث وأرقى اللوحات ونختار أمكنة الأسرة ونضع فيها أطفالنا ونطبطب عليهم ونغني على مسامعهم أعذب الألحان حتى يناموا في هدوء وسلام. تلك السعادة لم يكن يعكر صفوها سوى صوت نسائي يعلمنا بنفاد رصيد المكالمات. أحزن أشد الحزن لانقطاع الخط فجأة وأتذكر كلمات كنت أتأهب لقولها ولم يتسن لي ذلك. تم أستلقي فوق فراشي وأغوص في لوعة الحب التي لا تنطفئ، وأتخيل البلدان الجميلة التي سأزورها وأرسم بريشة الحب الصادق الحياة السعيدة التي سنعيشها في الدنيا وتستمر في الجنة في حلة لا أعلمها.

anfasse19075لا أعلم هل ضاقت مريم، أم ضاقت علي كلماتها، حتى أصرخ في وجهها بتلك الطريقة اللابأس في وقاحتها ككلب.. في داخلي حمم تستولي على الكلمات، لم أعد قادرا على وصف ما جرى ..في شفتي قبل تعوي حنينا إلى شفتيها .. فخذيها  أي شيء فيها ..المسافة التي تفصلني الآن عن استعادتها مليئة بالأغصان المحروقة..تمر أوقات وأنا قلق لسبب أجهله. وحدتي هي حريتي الخام التي لا أستطيع أن أحميها من  ذكريات كثيرة ..الآن وقد فَكت سراحها من صباحات عديدة كان الشجار معي عنوانها، شجارات كانت لتتجنبها لو لم تَنسحب في صمت كما فعلت ...شجارات كثيرة لا أنا عرفت كيف أتخلص منها، ولا هي كَفَّت عن مضايقتي، ..كم كانت تقتلني عندما تجعل من الصمت لواءها، وهي تشاهد ذئاب المسلسلات  اليومية في لامبالاة ..حتى القبل التي تَعودنا على وضوح طرطقتها، قبل أن يضيع أثر الكلمات التي كنا بها نهتدي، سقطت بيننا كزر مهمل، لا أتأسف على ما فات، فأنا لم أضَيع مريم ما دُمت لم أحصل عليها..

anfasse19073كان يمشي حيناً على الرصيف وحيناً على الإسفلت بخطواته المعتادة المتأنّية، كان المساء خريفيا، بعد يوم عمل عامر لم يخل من همّ وكرب. أخرج من جيب معطفه الخارجي علبة السجائر، أشعل سيجارته المسائية وهو يمشي في الشارع، أعاد العلبة إلى مكانها. كان فكره شارداً، لا يدري طبيعة إحساس وقلق انتابه. فجأة تذكّر شيئاً، تحسّس جيوب معطفه الداخلية، وجد حافظته كعادتها في الجيب الأيسر وفي الجيب الأيمن لمست أنامله ورقة صغيرة. أخرجها نظر إليها برهة، فكّ ثناياها، فوقعت عيناه على جملة صغيرة كانت تركتها كاتبة الشركة هذا الصباح على مكتبه.  وقتها وضع الورقة في جيبه الأيمن ولم يقرأها. فغالباً ما ينزعج من هذه الوريقات اليتيمات التي توضع على مكتبه. فالوقت لم يسعفه هذا الصباح،  فقد كان اليوم متعباً ومليئاً بالشغل واللقاءات.

anfassa01076جلس في ركن قصي في المقهى لكي لا تدركه عيون العواذل الذين يتناسلون هذه الأيام مثل إناث القطط، فتح كتابا كان يتأبطه وغرس بصره بين دفتيه، وكان لا يحيد ببصره عن هذا الكتاب إلا ليشعل سيجارة من بقايا أخرى أو ليرتشف من فنجان القهوة رشفة ذات طنين مثل صرير باب قديم، كان يدون في مذكرته جملتين جناهما بعناية الريفيات من الكتاب حين لمح في الطاولة التي تقابله أنثى ترتدي معطفا شتويا أحمرا وتوشح جيدها الطويل بشال يتناغم مع أسود حذائها ذي الكعب العالي، وكانت رواية " انا كارنينا" لتولستوي تنام على ظهر مائدتها بغنج الأميرات، فرك عينيه اللتين غزا السواد أرصفتهما، واسترق النظر إليها لكي يتيقن من أن هذه الأنثى ليست شخصية من رواية نسي عنوانها.