anfasse01113- أيها السادة، أهل الحل والعقد ، الأرض تموت ، يخنقها احترارها.
لنرْأفْ بها  ونرحمْها،  قبل أن تلفظ أنفاسها .
إنها... ونحن جسد واحد؛ بقاؤنا في سلامتها، واندثارنا في خرابها...
كان حزينا وهو يخاطب الجمع، وكان  في كلامه حزم وفظاظة ، استشعر أنهما لن يفيداه في الإقناع، فبات يلطف من حدة خطابه ، جاعلا جملَه رقيقة ، هادئة وكأنها  قطع من قصيدة شعر رومانسية...  واسترسل:
- لنفكر في وجودنا ومآلاته... إنّا مقبلون على رسم نهاية مأساوية لنا على الأرض، لنغيرـ قبل الوصول إلى نقطة لا عودة ـ من نمط حياتنا ، ولنضع حدا  لاعتمادنا على الطاقة الأحفورية، ولنسعَ قدما نحو الشمس، الأصل.
لا حظ  مرة أخرى أن القاعة لم تتململ، صامتة كأرائكها الوثيرة، باردة كبلاطها الرخامي ،غير أنه لم ين ولم ييأس، بل تابع شروحاته مشركا يديه وعامة جسده وعارضة البيانات ، وحتى فنتازيته وخياله الواسع: 

Anfasse24106وأنت تنخل الذكريات بحثا عما ينسج في الخيال سردية عابرة، تنط الأمكنة واحدا تلو الآخر لتغريك باتخاذها ثوبا مستعارا لما سيخطه القلم من بوح أو وشاية ! تلح على الشخوص و الأحداث ليمهروا حضورها الداكن. ليس المكان فضاء فحسب، وإنما هي روح موزعة في الطرقات، تستحث رغبتك المشتعلة للكتابة ! 
يكرر س.ع ممشاه المتعثر كل يوم بين المزبلة و الحوانيت المرصوصة. هطول مطر غزير ليلة أمس حول الزقاق الذي يسلكه إلى بِركة من الوحل القذر. تبا لهذه الحصة الصباحية التي تقض مضجعه في ليالي الشتاء الباردة. مرأى الصغار وهم يرتجفون كالفراخ المبلولة يجدد حنقه على من يفرض، هناك في العاصمة، قالبا واحدا للتعليم في جغرافيا متباينة ومناخ متقلب !

Anfasse24103السماء تمطر سيولا جارفة تجر معها كل شيء من بقايا أوراق الشجر وقصاصات الورق وأكياس البلاستيك السوداء.. بين الرمشة والأخرى يصعق الرعد بقوة ويرسل البرق وميضا منذرا بقدوم شتاء بارد..
عاد إلى مكانه.. دنا من المسجل يدير شريطا لسيدة الطرب العربي (يا حبيبي كل شيء بقضاء)
 أخذ سيجارة وانطلق ينسج خيوطا وحلقات وهمية من دخان تتلاشى بسرعة في الهواء! يطلق العنان لخياله هائما في متاهات الوجود باحثا عن مرفأ يرسو عنده.
يتساءل: ماذا بقي من رماد الروح ؟! ماذا بقي من دفء الشمس وعطر الأقاحي؟

Anfasse24101تسطع الشمس بقوة في نهاية اسبوع ملتهبة فجأة ،يلسع لهيبها الجلد  حرقا، وتجف الاعشاب والأوراق تتساقط أرضا، كذلك هي تنتابها حرارة ذابلة لجسمها الملفوع تحت سقف البيت الخانق، وحدها من بين اعضاء عائلتها  تشكو اللظى المتناسل داخلها، كما أنها في الجمر ينهش خلاياها، تتجرد من ملابسها الا من قطعتين قطنيتين قصيرتين داخلتين، تقاوم بالتلويح بيديها  على وجهها تصفعها بنسائم رياح خفيفة من يديها الرقيقتين...

تدور في رأسه أفكار عن عذاب القبر و حياة البرزخ. يسمع أصواتا غير واضحة تأتي من غيابات المجهول، كأنها قادمة من أعماق بئر مطمورة، لعلها أصوات منكر و نكير أو شياطين القبور. يحاول جاهدا رفع جفونه الملتصقة بالحدقات المنتفخة و المتورمة، ألم فظيع في الركبة، خدر شديد من الكتف إلى رؤوس الأصابع، ظلام و رائحة أتربة خانقة. آخر عهده بالدنيا، هدير يصم الآذان، أرض تهتز و بيوت تتهاوى. كان لا يزال في مسجد القصبة السلطانية يصلي الوتر عندما سمع صراخ الناس و عويلهم، لا يعرف كيف أمكنه الوصول إلى بيته في أهوال يوم القيامة تلك. سقف المنزل تداعى و صوت الوالدة التي اعتادت أن تترنم بعد صلاة العشاء بأورادها الصوفية، لم يعد هنالك. أركان الدار تخر تحت هول الزلزلة العظيمة. دوي و أدخنة، ثم ساد الصمت و انطفأ الكون.

ملحوظة : "كل تشابه أو تطابق مع شخصيات هذه القصة ليس من محض الصدفة، ولا من نسج الخيال."
    لم أستطع نسيان ذلك اليوم بتاتا ولن أنساه، وهو الذي كان له كبير أثر في حياتي.. أبلغ الآن من العمر أربعين سنة ونيفا، لكني أحمل عاهة نفسية كبيرة لا يستطيع الطب المتقدم أن يحلها، وهي أني امرأة بدون طفولة، أو بالأحرى لم أتمكن من الانخراط فيها على غرار العديد من الأصدقاء الذين يتحدثون عنها بإحساس مزدوج،  يمزج بين الحسرة على فقدانها، والافتخار بأيام مغامراتها وحماقاتها..
    في ذلك اليوم الذي لن أستطيع التخلص من كابوسه، كنت ألعب أمام باب البيت، حيث خرجت والدتي فجأة ثم نادت علي بطريقة غير معهودة، خلت في الأمر شيئا غير معهود، لكني ما إن وددت استفسارها حتى أخبرتني بأن أحد الضيوف سيزورنا خلال هذا المساء، وأنه علي أخذ حمام ساخن وارتداء أفخر ما أملك من الملابس، بدا لي الأمر غريبا بعض الشيء ، إذ ما علاقتي بهؤلاء الضيوف؟ ومتى كانت والدتي تهتم بمظهري حين زيارة أحدهم؟

لقد مرعام وسبقته أعوام وتزاحمت الأيام.
ومرة أخرى ها أنت تعودين.
 تلوحين بأن تفجري كل ذنب التصق بك.
عُدت تحاولين جري إلى مآسي مدائن الموت والدمار التي هجرتها منذ زمن.
في ذاكرة الليل يفاجئني حلمك الضائع مني قسرا منذ ألف سنة.
هذا عمر آخر يناديني إليك.
 يا امرأة حسبتها ذات عهد زورق نجاتي
 الذي ركبته فرارا من أحزاني.
هذا سرك عاد يسري عبر نسيم الليل ويغني...

anfasse30094  ها قد بدأ الليل يسدل سجوفه ويرخي أستاره شيئا فشيئا، .وبدأت السماء تمطر مطرا ساجما سرعان ما انقلب إلى مطر غزير يسقط زخات زخات، والسحب واجمة مكفهرة عابسة الوجه، تنتقل في الفضاء عجلى كحمامة تطاردها الصقور، وأنت ما زلت تطل من النافذة على الشارع سابحا في همومك ومآسيك، تعتصر قلبَك أحزانُك، يهد اليأسُ وجدانَك ويمزق الأسى كيانَك، سارحا في سوانح أفكارك، منقادا لأوهامك، تخضب وجهك بدمع يغرورق من عينين كأنهما سيل جارف أو صنبور ماء ترك مفتوحا، ليلك بهيم وكل أوقاتك عصيبة، لا يعرف النوم إلى أجفانك سبيلا، تظل الليل كله أو بعضه تتأمل أرجاء المدينة الصاخبة وأضواءها القاتمة، وتسرح بخيالك في جوانح أفكارك. كنت دائما ما تطيل التفكير كأنك على أهبة أن تخرج للعالم بنظرية حول الكون، لكنك هذه المرة سئمت من طول تجوالك في تلك الغياهب التي لن تقذف بك إلا في عالم الشك والحيرة.